أعادت وفاة الرئيس الإيراني المفاجئة اذهان الباحثين والمهتمين إلي البحث في آليات عمل النظام السياسي الإيراني ومؤسساته ،فقد مثّل الانتقال السلس للسلطة علامة بارزة في المنطقة.
من المعلوم أن النظام السياسي الإيراني (المُعقد وغير العادي) جمع بين عناصر حكم ديني إسلامي عصري والديمقراطية.
حيث تعمل شبكة من المؤسسات غير المنتخبة التي يسيطر عليها المرشد الأعلى جنباً إلى جنب مع رئيس وبرلمان منتخبين من قبل الشعب.
يعد المرشد الأعلى أقوى شخصية في إيران التي لم تعرف سوى مرشدين اثنين منذ الثورة الإسلامية عام 1979 وهما آية الله روح الله الخميني (مؤسس الجمهورية) وخليفته آية الله علي خامنئي وله عدة صلاحيات واسعة، بينما يُنتخب الرئيس لمدة 4 سنوات ولا يمكنه أن يخدم أكثر من فترتين متتاليتين، ويصفه الدستور بأنه ثاني أعلى مسؤول في البلاد، الي جانب وجود برلمان مُنتخب (مجلس الشورى) وعددهم 290 عن طريق التصويت الشعبي كل أربع سنوات.
بجانب ذلك هنالك مجلس صيانة الدستور، وهو الهيئة الأكثر نفوذا في إيران،،و يتألف المجلس من 6 علماء دين يعينهم المرشد الأعلى و6 فقهاء قانونيين يرشحهم القضاء ويوافق عليهم البرلمان، وكذلك يوجد مجلس خبراء القيادة، إذ يتألف المجلس القوي من 88 من علماء الدين أو رجال الدين، وهو مسؤول عن تعيين المرشد الأعلى ومراقبة أدائه، بجانب مجلس تشخيص مصلحة النظام الذي يقدم المشورة للمرشد الأعلى ويتمتع بسلطة الفصل النهائية في النزاعات حول التشريعات بين البرلمان ومجلس صيانة الدستور.
في 19 مايو، توفي الرئيس الإيراني إبراهيم رئيسي ووزير الخارجية حسين أمير عبد اللهيان وستة آخرين من الركاب وطاقم الطائرة في حادث تحطم طائرة هليكوبتر، حيث وسقطت الطائرة في منطقة جبلية بمحافظة أذربيجان الشرقية شمال غربي إيران. وكان المسؤولون عائدين من حفل افتتاح سد على الحدود مع أذربيجان.وتحوّل التركيز الي ماهية التغييرات السياسية التي ستأتي بعد الانتخابات المقرر إجراؤها في 28 يونيو القادم ،وفي الوقت نفسه قام المرشد الأعلى آية الله علي خامنئي بتعيين النائب الأول لرئيسي، محمد مخبر، رئيسًا مؤقتًا، وقد كان لمخبر علاقات وثيقة مع المرشد الأعلى والحرس الثوري، لكن لم يكن يُنظر إليه على أنه منافس محتمل للرئاسة.
لن تغير وفاة رئيسي مسار السياسة الخارجية الإيرانية بشكل كبير على المدى القريب، فالسياسة الخارجية الإيرانية ليست ضمن الصلاحيات الحصرية للرئيس، فهنالك المجلس الأعلى للأمن القومي (SNSC) وهو أعلى هيئة مسؤولة عن السياسة الخارجية والأمن القومي. بصفته رئيسًا للمجلس، يستطيع الرئيس التأثير على المناقشات ولعب دور في وضع جدول الأعمال،لكن لا يزال يتعين على الرئيس العمل على التوصل إلى توافق في الآراء مع 11 عضوًا لهم عضوية دائمة ويشغلون مناصب عسكرية أو سياسية أو وزارية رفيعة المستوى. لكن في نهاية المطاف، يجب أن تتم الموافقة على قرارات مجلس الأمن القومي من قبل المرشد الأعلى.
وفي إطار تثبيت السياسة الخارجية الإيرانية وتوجهاتها كانت إحدى الخطوات الأولى التي اتخذها الرئيس مخبر هي تعيين علي باقري كاني نائب وزير الخارجية للشؤون السياسية، وزيراً للخارجية بالإنابة، وكان باقري هو المفاوض النووي الرئيسي في عهد ألرئيس الراحل رئيسي، وقد كان من أشد منتقدي الاتفاق النووي لعام 2015. إلا أنه في منتصف مايو 2024، أفادت تقارير أن باقري أجرى محادثات غير مباشرة مع بريت ماكغورك، منسق البيت الأبيض لشؤون الشرق الأوسط وشمال أفريقيا، بشأن تهدئة التوترات الإقليمية كما كان مفترض ان يجتمع مع مسئولين بالاتحاد الأوروبي في 22 مايو وقد تم إلغاؤه بعد تحطم المروحية.
عندما تولى الرئيس الراحل رئيسي منصبه في عام 2021، دعم في وقت مُبكر المفاوضات لاستعادة التزام الولايات المتحدة وإيران بالاتفاق النووي لعام 2015. لكنه ضاعف من تركيزه على المحور الشرقي لإيران، وهو الأمر الذي طالما دافع عنه ما يُسمي (بالمتشددون)وفي ذلك حدّد رئيسي أولويتين رئيسيتين للسياسة الخارجية: تحسين العلاقات مع الجيران، وتوسيع العلاقات مع القوى الآسيوية، بما في ذلك الصين وروسيا وقد حققت إدارته تقدما على الجبهتين لكنها فشلت في إحياء الاتفاق النووي لعام 2015. وقد كانت ابرز تطورات السياسة الخارجية في عهد الرئيس رئيسي تمثلت في الاتي:
١/ انضمام إيران إلى كتلتين اقتصاديتين جعلتها أقرب إلى الصين وروسيا، ففي يوليو 2023، تم قبول إيران رسميًا باعتبارها العضو التاسع في منظمة شنغهاي للتعاون، وهي منظمة أمنية واقتصادية تقودها الصين وروسيا وتضم أيضًا دول وسط وجنوب آسيا.
٢/ وفي يناير2024 أصبحت إيران عضوا في كتلة البريكس التي تضم الاقتصادات الناشئة (البرازيل وروسيا والهند والصين وجنوب أفريقيا) وتمثل الدول الخمس مجتمعة ما يقرب من ربع اقتصاد العالم وأكثر من 40 في المائة من سكان العالم.
٣/ إلي ذلك اتفقت إيران ومنافستها الإقليمية المملكة العربية السعودية على اتفاق بوساطة صينية لاستعادة العلاقات الدبلوماسية بعد سبع سنوات من قطع العلاقات. وأكدت الجمهورية الإسلامية والمملكة الخليجية احترامهما “سيادة الدول” وعدم التدخل في الشؤون الداخلية”.
٤/ وفيما يتصل بالعلاقة مع أفغانستان، التي تشترك معها إيران في حدود طولها 572 ميلاً، فقد أشاد الرئيس رئيسي بالانسحاب الأمريكي من افغانستان واعتمد سياسة التعامل الحذر مع حركة طالبان (السنية) وسط الفوضى.
وحث هو ومسؤولون آخرون حركة طالبان على تشكيل حكومة تعكس التنوع السياسي والديني والعرقي في أفغانستان.
ولم تعترف إيران رسميا بحكم طالبان حتى وان كانت تتعامل مع كابول بصورة اعتيادية ،وعلي الرغم من الاشتباكات الحدودية من حين لآخر، لكن البلدين تجنبا الصراع المفتوح على الرغم من النزاع الطويل الأمد حول حقوق المياه.
٥/ فشلت حكومة رئيسي في إحياء الاتفاق النووي لعام 2015 مع القوى الست الكبرى في العالم (بريطانيا والصين وألمانيا وفرنسا وروسيا والولايات المتحدة) وقد انسحب الرئيس الاميركي السابق دونالد ترامب من جانب واحد من الصفقة في عام 2018 وأعاد فرض العقوبات الأمريكية إلا أن إدارة بادين أطلقت مبادرة دبلوماسية في أبريل 2021 – بقيادة الاتحاد الأوروبي – لكنها انهارت في أغسطس 2022 عندما رفضت طهران الشروط النهائية، وكان من الممكن أن يكون رفع العقوبات الأمريكية بمثابة نعمة اقتصادية كبيرة للاقتصاد الإيراني. لكن يبدو أن حكومة رئيسي تتخلى عن احتمال تحسين العلاقات مع الغرب مع تحول طهران بشكل متزايد، في العلاقات التجارية والعسكرية، إلى الصين وروسيا.
وعلي ذلك تبقي ابواب التكهنات مفتوحة في استمرارية توجهات السياسة الخارجية الايرانية علي الرغم من الانتقال السلس للسلطة إلا ان إرث السياسة الخارجية الإيرانية الذي تركه الرئيس الراحل رئيسي رهين بنتائج الانتخابات الرئاسية المُحدد لها ٢٨ يونيو القادم.
د. الوليد سيد محمد علي
خريج جامعة الخرطوم/ علوم سياسية
دكتوراة في العلاقات الدولية- جامعة القاهرة- مصر
باحث في العلاقات الدولية
دبلوماسي- وزارة الخارجية السودانية
[email protected]