يعدّ اكتشاف حطام سفينة فاخرة يعود عمرها إلى نحو ألفي عام قبالة سواحل الإسكندرية حدثًا أثريًا بالغ الأهمية، يفتح أمامنا نافذة واسعة على الحياة البحرية، والثقافية، والاجتماعية في مصر الرومانية. فقد كانت الإسكندرية منذ تأسيسها على يد الإسكندر الأكبر عام 331 قبل الميلاد مركزًا حضاريًا استثنائيًا، اجتمعت فيه التقاليد المصرية العريقة مع الثقافة الهلنستية وروح الإدارة الرومانية، لتتحوّل إلى مدينة عالمية كانت تتنفس العلم والفن والابتكار.
إن السفينة المكتشفة، بطولها الذي يزيد عن 35 مترًا وعرضها نحو 7 أمتار، وزخارفها الداخلية الدقيقة ونقوشها اليونانية الواضحة، تعكس مستوى رفيعًا من الرفاهية والذوق الذي كان يميز حياة النخبة السكندرية في النصف الأول من القرن الأول للميلاد. وتشير المعطيات الأولية إلى أن السفينة كانت تُستخدم في الرحلات الترفيهية والمواكب الاحتفالية، ما يؤكد ما ورد في المصادر القديمة عن الطابع الاحتفالي لموانئ الإسكندرية وأهميتها كمركز اجتماعي وسياسي.
ولا يمكن فصل هذا الاكتشاف عن السياق الأشمل للبحث الأثري البحري في المنطقة، فقد أسهمت عمليات الاستكشاف تحت المياه حول الجزيرة الغارقة «أنتيرودوس» منذ تسعينيات القرن الماضي في الكشف عن قصور ملكية، ومعابد فخمة، وتماثيل، وكتابات، وعملات، وأوانٍ فنية، ما أتاح للباحثين رسم صورة متكاملة لعظمة الإسكندرية القديمة ونمط حياتها البحري والديني والسياسي. واليوم، تضيف السفينة المكتشفة بعدًا جديدًا لدراستنا لتقنيات بناء السفن، وأشكال الترفيه والاحتفال، ومستوى الرفاهية الذي كان يتمتع به المجتمع السكندري في عصره الذهبي.
لكن هذا الاكتشاف التاريخي يطرح أيضًا واقعًا معاصرًا مقلقًا. فالإسكندرية اليوم تواجه تهديدات بيئية خطيرة، تتمثل في ارتفاع منسوب مياه البحر، وتآكل السواحل، وهبوط الأراضي الطبيعية، ما يجعل المدينة معرضة للغمر الجزئي خلال العقود المقبلة إذا لم تُتخذ إجراءات حماية عاجلة. إن المفارقة واضحة: البحر ذاته الذي حفظ لنا كنوز الماضي وأتاح للعلماء اكتشافها، هو نفسه الذي يهدد حاضر المدينة ومستقبلها.
لذلك فإن مسؤوليتنا اليوم مزدوجة؛ فهي علمية وأخلاقية وثقافية. علينا أن نستمر في البحث الأثري الدقيق، ونربط بين حماية التراث والتخطيط الحضري ومواجهة التغيرات المناخية، لضمان أن تظل الإسكندرية مدينة حية، نابضة، وقادرة على استيعاب إرثها التاريخي وثقافتها الغنية.
إن اكتشاف هذه السفينة ليس مجرد نافذة إلى الماضي، بل هو دعوة قوية للتفكير في المستقبل. الإسكندرية، التي صمدت لأكثر من ألفي عام، تستحق أن تُصان وأن يُؤمن استدامتها للأجيال القادمة، لتظل منارة للعلم والثقافة والتاريخ الإنساني.










