تمثل عصور ما قبل التاريخ في مصر الجذور العميقة التي نبتت منها واحدة من أعظم حضارات العالم. ليست هذه العصور مجرد فراغ زمني قبل ظهور الكتابة، بل هي مراحل تأسيسية تشكلت خلالها الهوية المصرية الأولى، وظهرت فيها البذور الأولى للتنظيم الاجتماعي والاقتصادي والديني والسياسي، وصولًا إلى قيام أول دولة مركزية موحدة نحو عام 3200 ق.م.
يمتد العصر الحجري القديم لمئات الآلاف من السنين، وقد ترك لنا الإنسان خلاله أدوات حجرية بسيطة لكنها تحمل دلالات عميقة على قدرته المدهشة على التكيف مع تغيرات البيئة عبر العصور الجليدية وما بعدها. في العصر الحجري الوسيط تتطور الأدوات الدقيقة ويبدأ الإنسان في إدراك مزايا الاستقرار الموسمي، فتنشأ أنماط حياة أكثر ارتباطًا بمصادر الغذاء.
ومع العصر الحجري الحديث تحدث نقطة التحول الكبرى، وهي “الثورة الزراعية”. في مواقع مثل مرمدة بني سلامة تتشكل أولى القرى المستقرة، ويزرع المصريون الأوائل القمح والشعير ويستأنسون الحيوانات، فتتغير علاقة الإنسان بالأرض تغييرًا جذريًا، ويبدأ مفهوم الملكية والحدود والعلاقات الاجتماعية المنظمة في الظهور.
ثم يأتي عصر ما قبل الأسرات ليحمل ملامح أكثر وضوحًا للحضارة. تظهر حضارات مهمة مثل نقادة، وتتميز بفخار على درجة عالية من الإتقان، وباستخدام النحاس لأول مرة، وبمقابر منظمة تدل على وجود تمايز اجتماعي واضح وبدايات فكر ديني آخذ في التشكل. في حضارة نقادة، وبخاصة مرحلتها الثالثة، تتطور أدوات السلطة، وتبرز ملامح الكتابة الأولى، وينمو نفوذ الزعامات المحلية. وتأتي لوحة نعرمر لتجسّد رمزيًا الخطوات الأولى لتوحيد البلاد. كما تقدم مواقع الفيوم أدلة مهمة على اقتصاد متنوع يجمع بين الزراعة والصيد، مما يعكس قدرة المصري القديم على ابتكار حلول معيشية متوازنة.
وتشير الطقوس الجنائزية في نقادة إلى بدايات الاعتقاد في الحياة الأخرى، وهي البذور الأولى للمعتقدات الدينية التي ستبلغ أوجها في العصور التاريخية. ومع التقدم في صناعة الفخار والنحاس وصقل الأدوات تتنامى الإنتاجية، ويظهر نظام اجتماعي أكثر تعقيدًا يمهد لقيام الدولة.
بلغ هذا التطور ذروته مع توحيد مصر العليا والسفلى على يد الملك حور عحا (مينا)، لتبدأ بذلك مرحلة الأسرات ويولد مفهوم الدولة المركزية في وادي النيل. وتؤكد الاكتشافات الأثرية في المواقع الكبرى أن الحضارة المصرية لم تنشأ فجأة، بل كانت ثمرة تراكم طويل من الإبداع والابتكار والسعي الإنساني المستمر نحو التنظيم والمعرفة. وفي هذا الامتداد العميق، تتجلى ملامح الشخصية المصرية التي صمدت لآلاف السنين، ثابتة الجذور، متجددة الروح.










