في عالم تتزايد فيه الحواجز السياسية والثقافية، يبقى العلم جسرًا متينًا يربط الشعوب ويعيد رسم خرائط التعاون. من هذا المنطلق، أجرت “صدى البلد” لقاءً موسعًا مع الدكتور عصام شاهين، مساعد رئيس جامعة خاركيف البوليتكنيكية الوطنية في أوكرانيا لشؤون الأجانب وممثله في الشرق الأوسط وأفريقيا (NTU KhPI)، التي تُعد من أعرق الجامعات بتخصصاتها الهندسية والتقنية على مستوى أوروبا الشرقية. يكشف الحوار خفايا استقطاب الجامعة لأعداد متزايدة من الطلاب المصريين والعرب، ودورها المحوري في تعزيز التعاون الأكاديمي وتبادل الباحثين، وكذلك الدعم المخصص للطلاب في ظل الظروف العالمية المتغيرة، من حرب وأزمات سياسية، إلى جانب علاقات الجامعة العميقة بسوق العمل وشركات الطاقة الحديثة.
لماذا مصر؟ ولماذا جامعة خاركيف؟
يرى الدكتور شاهين أن مصر ليست خيارًا عاديًا بل محورًا في قلب العالم العربي والإفريقي، فعدد سكانها الكبير وثقافتها العريقة يجعلانها بوابة مثالية لكل جامعة تبحث عن إشعاع دولي حقيقي. وعن سر تركيز الجامعة على مصر، يقول:
“مصر أولاً هي الأكبر ديموغرافيًا، والأغنى حضاريًا. لذا اخترنا القاهرة مدخلًا رئيسيًا لتعزيز التعاون، ووجهت شخصيًا دعوات لمئات الطلاب المصريين لمتابعة دراستهم في جامعتنا، التي تضم معظم التخصصات التقنية والعلمية”.
تتميز جامعة خاركيف البوليتكنيكية بكونها واحدة من الجامعات الأوكرانية القليلة المعترف بها رسميًا من المجلس الأعلى للجامعات بمصر، ما يضمن للطالب معادلة شهادته دون صعوبات بعد العودة إلى وطنه، خاصة في تخصصات الهندسة والطاقة والطب.
التعليم جسر للتقارب العلمي والثقافي
الدكتور شاهين يؤمن بأن التعليم هو السبيل الأسرع والأصدق لبناء الجسور بين الشعوب، إذ لا تقتصر فوائده على نقل المعرفة العلمية فقط، بل يوسع دائرة التفاهم الإنساني والثقافي، ويؤسس لمنظومة من المحبة والسلام، مضيفًا:
“العلاقات الأكاديمية المبادرة لتقارب الشعوب تمنحهم فرصًا لتبادل الخبرات، وتسهم في التسريع من عجلة التطور العلمي والمجتمعي لكل طرف”.
لا تقتصر الشراكة على الطالب المصري وحده، حيث تسعى الجامعة لتقوية التعاون مع الجامعات المصرية والمؤسسات البحثية، عبر إقامة مؤتمرات وزيارات متبادلة، وتقديم فرص للدراسات العليا والبحث العلمي المشترك في قضايا ملحة كأمن الطاقة والغذاء، والتكنولوجيا الحديثة، وحلول التنمية المستدامة.
الطاقة والمجالات النوعية: رهان المستقبل
تعد جامعة خاركيف البوليتكنيكية الأولى في شرق أوكرانيا بتخصصات الطاقة المتجددة والنفط والغاز، وهي القطاعات الأكثر طلبًا في سوق العمل المصري والعربي. ويوضح الدكتور شاهين أن الجامعة طورت شراكات قوية مع شركات عالمية أشهرها شلومبرغر، ما أفرز فرص تدريب وتوظيف داخل أوكرانيا وخارجها.
“لدينا اتفاقيات علمية وأكاديمية مع عدة شركات وجامعات أوروبية، وصلب هذه الشراكات يتمثل في تبادل الوفود الطلابية، وإتاحة فرص لطلابنا المصريين والعرب للعمل والتدريب في كبرى الشركات”.
كما أصبحت الجامعة حاضنة رئيسية لأبحاث الطاقة المتجددة، وتوفر للطلاب والباحثين مختبرات وأطر للإبداع قد لا تتوفر في بيئات تعليمية تقليدية.
تجربة الطلاب العرب والدعم المجتمعي
ركز الدكتور شاهين على استحداث مركز ثقافي عربي أوكراني متكامل داخل الجامعة، هدفه الأساسي رعاية شؤون الطلاب العرب، من الأمور المعيشية والسكن إلى المشكلات الأكاديمية أو حتى الاجتماعية، بمرافقة أكاديمية مستمرة من مشرفين متخصصين.
ويشيد بالشعب الأوكراني واصفًا إياه بالودود والمساند، مشيرًا إلى أن البيئة الأوكرانية آمنة وداعمة، ما يساهم في سهولة اندماج الطالب المصري واكتسابه خبرة إنسانية متنوعة.
إدارة الأزمات والتأثيرات الجيوسياسية
يؤمن شاهين بأن الأزمات والحروب لم ولن توقف حركة العلم. إذ يؤكد أن الجامعة كوّنت ما يُسمى “مجلس الأزمة” لمباشرة شؤون الطلاب في حالات الطوارئ، ووضع بدائل تكنولوجية آمنة من خلال الدراسة عن بعد. يشدد:
“خلال فترات الحرب في أوكرانيا، لم يُصب أي طالب عربي بضرر، وقمنا سريعًا بإجلاء من رغب وتأمين بقية الطلاب في أقصى درجات الأمان. وحق العلم لا يُعطل مهما تغيرت الظروف”.
ويطمئن الطلاب المصريين بأن الدراسة في الجامعة معترف بها في مصر ومحمية من أي غموض قانوني أو إداري، ويشمل الاعتراف كل برامج البكالوريوس والدراسات العليا ضمن اللوائح الرسمية المحدثة سنويًا بين البلدين.
الشراكة البحثية وتبادل الطلبة والباحثين
يكشف د. شاهين عن خطط مستقبلية لإيفاد باحثين من الجامعة إلى الجامعات المصرية، وتنظيم مؤتمرات مشتركة، وتبادل طلابي بين البلدين، تحت رعاية السفارات والملحقيات الثقافية، منبهًا إلى أن جميع الشراكات تجري وفق بروتوكولات تعاون شاملة، وتخدم التنمية في كلا البلدين.
يشدد شاهين على أهمية تأسيس جمعية لخريجي الجامعات الأوكرانية في مصر، “ليكونوا سفراء للعلم ومصدرًا للخبرة والتنمية، فضلاً عن تيسير اندماج خريجي الجامعة في سوق العمل بسرعة واحترافية”.
التخصصات النوعية وقوة اللغة
أوضح شاهين أن هناك تفكيرًا جديًا لإنشاء كراسي وأقسام دائمة للغة العربية في الجامعات الأوكرانية، والاهتمام بتدريس اللغة الأوكرانية وتخصصات الترجمة في الجامعات المصرية، بغية تعزيز التبادل الثقافي والتحصيل الأكاديمي لكلا الطرفين، ما يساعد الطالب على الانتقال بثقة إلى سوق العمل الدولي.
الذكاء الاصطناعي والأمن السيبراني: مستقبل بلا حواجز
تولي الجامعة اهتمامًا بالغًا بتطوير المناهج في الذكاء الاصطناعي والأمن السيبراني، وتطبيقها في ميادين الهندسة والإدارة، مع برامج فرعية لتشجيع الطلاب الأجانب على الابتكار وإطلاق المشاريع البحثية.
ويضيف: “ما يميزنا هو المساواة في الإشراف العلمي بين كل الطلاب دون تمييز جنسي أو عرقي باستثناء اشتراط بعض اللغات، ونعطي للطالبة المصرية والعربية الاهتمام والرعاية اللازمة لنجاحها في بيئة تحترم خصوصيتها”.
تُميز الجامعة: شهادتان بفرصة واحدة
عن شهادة الجامعة، يؤكد الدكتور شاهين أن الطالب المسجّل في خاركيف يمكنه عبر برامج التبادل والشراكة مع جامعات أوروبية كبرى، أن يحصل في نهاية مشواره الدراسي على شهادتين رسميتين:
إحداهما من جامعة خاركيف البوليتكنيكية
الثانية من جامعة ألمانية أو فرنسية شريكة، بما يتيح له فرص العمل أو الدراسة العليا في أوروبا دون عوائق اعتراف أو معادلة.
معارض التعليم والتواصل المباشر
ينظر شاهين للمشاركة في المعارض الأكاديمية كأداة استراتيجية لتقوية الحضور الأوكراني في السوق التعليمي المصري. “لدينا خطط تفصيلية لعرض برامجنا في كل معرض رسمي بمصر، ونعمل بإشراف السفارة على توظيف هذا الحضور في توسيع دائرة الطلاب المصريين في جامعتنا”.
كلمات ختامية: مصر… أم الدنيا
يختم الدكتور شاهين الحوار بقوله عن مصر:
“كل زيارة لي إلى مصر تُؤكد لي مكانتها كمهد الحضارات الإنسانية، وأهلها ودودون وعقلاء، ودوماً سأعود إليها سائحا وسفيرًا للعلم. مصر هي الجسر الأكبر في التعاون بين أوكرانيا والعالم العربي”.
