رغم ما نملكه من إرث ديني وثقافي يحث على الإيثار والعطاء، إلا أن الواقع المؤسف يكشف عن مجتمع بدأ يتنكر لأبسط معاني التكافل والود والوفاء،ففكرة العمل التطوعي، التي يجب أن تكون جزءًا من النسيج المجتمعي، باتت في كثير من الأحيان موسمية، شكلية، أو وسيلة للشهرة لا للإحسان.
نتحدث كثيرًا عن القيم، ونُغرق أطفالنا بالخطب والمواعظ، لكننا نادراً ما نُربيهم على ممارسة هذه القيم. كم من أسرة تُعلّم أبناءها كيف يمدون يد العون، كم من أب أو أم اصطحب أطفاله في زيارة لدار أيتام، أو شاركهم في مبادرة تطوعية ،الحقيقة أن كثيراً من الأسر أصبحت تربي أبناءها على الاستهلاك، لا على الإحساس بالآخر.
ولعل الأكثر خطورة، أن بعض المدارس تنتهج التعليم بوصفه عملية تحصيل لا تهذيب، بينما تغيب الأنشطة التطوعية الهادفة، أو تُقدم بطريقة جافة لا تلامس وجدان الطالب. هل نُدرك ما معنى أن ينشأ جيل لا يعرف قيمة مساعدة الضعيف، ولا يرى نفسه مسؤولا عن مجتمعه، نحن نصنع أفرادًا يعرفون كيف ينجحون لأنفسهم فقط، لا من أجل غيرهم.
ومع بداية كل عام دراسي، تُرفع الشعارات، وتُعلن “مبادرات”، لكن دون أثر حقيقي أو استمرارية. لماذا لا تُقام ورش عمل عملية، تُعلم الطالب كيف يتفاعل مع البيئة،ومع الفقراء من حوله، مع ذوي الاحتياجات الخاصة ،لماذا لا نُدرّس “مادة التطوع” كما نُدرّس الرياضيات والعلوم.
أما في الجامعات، فالصورة أكثر تعقيدًا. هناك حيث يُفترض أن يكون الشباب في أوج وعيهم المجتمعي، نُفاجأ بأن كثيرًا منهم منشغلون ببناء مستقبل فردي بارد، لا يسكنه غيرهم. الجامعات تتحوّل تدريجيًا إلى مصانع إنتاج وظيفي، لا منصات إعداد قادة، ولا بيئة تُعزز فيهم روح الانتماء أو المسؤولية الجماعية، مع وجود كليات ومعاهد الخدمة الإجتماعية المنتشرة بالجامعات لماذا لايدرس طلاب الجامعة من الكليات المختلفة مادة العمل التطوعي بكليات الخدمة الإجتماعية.
لقد بدأنا نرى القيم تسحب من تحت أقدامنا. الإيثار بات غريبًا، والتراحم يُنظر إليه كضعف، والمساعدة تُصوَّر أحيانًا كمظهر للرياء. أي مجتمع هذا الذي يخجل من الرحمة،ويُسرف في المظاهر، بينما يتجاهل جوع الفقراء وبكاء الأمهات على أطراف الطرقات. وصراخات المرضي والجوعي في كل مكان .
نحن في حاجة إلى ثورة داخلية، تبدأ من البيت، تمر بالمدرسة، وتُصقل في الجامعة. ثورة تُعيد الاعتبار للعمل التطوعي كجزء من الهوية، لا كعمل إضافي أو ترف فكري.العمل التطوعي ليس خيارًا. إنه امتحان يومي لإنسانيتنا. وكل من فشل فيه، فشل في أهم ما يميزه كبشر.فليكن عامنا هذا عامًا مختلفًا. لا نريد خطبًا جديدة، نريد أفعالًا حقيقية. نريد مجتمعات تعيد بناء جسور المودة، قبل أن ينهار كل شيء.