تمتلك الجزائر تاريخاً عريقاً يمتد إلى آلاف السنين، حفر في عمق البحر الأبيض المتوسط وشمال أفريقيا طبقات حضارية متعاقبة، صنعت هوية مركبة وغنية. لكن هذا التاريخ نفسه كان مسرحاً لعمليات منهجية، وخاصة خلال الحقبة الاستعمارية الفرنسية، هدفت إلى طمس هذه الهوية وإحداث قطيعة ثقافية وحضارية، في إطار ما يمكن وصفه بـ “الإبادة الثقافية”.
الجذور العميقة: التركيب العرقي والحضارات القديمة
تشكل الهوية الجزائرية نتاجاً لتمازج عرقي وثقافي فريد. فقبل الفتوحات العربية الإسلامية، كانت أرض الجزائر مهداً للحضارات الأمازيغية (البربرية) العريقة، من قبائل النوميديين والموريين الذين أقاموا ممالك قوية (مثل مملكة ماسينيسا ويوغرطة). جاءت بعدها موجات من الفينيقيين الذين أسسوا مراكز تجارية كـ قرطاج، تلاهم الرومان والوندال والبيزنطيون. كل هذه الطبقات أسهمت في تشكيل التركيب العرقي والثقافي الأساسي للشعب الجزائري، حيث ظلت الهوية الأمازيغية هي الأساس، تتقاطع مع التأثيرات المتوسطية.
القرن السادس عشر: صعود القوة البحرية وتدخل العثمانيين
مع بزوغ فجر القرن السادس عشر، برزت الجزائر كقوة بحرية وسياسية لا يستهان بها في المتوسط. أدت سقوط الأندلس وتهديد الغزو الإسباني للسواحل إلى استنجاد سكانها بالإخوة عروج وخير الدين بربروس، الذين وضعوا المنطقة تحت حماية الدولة العثمانية، مؤسسين لما عرف بـ “إيالة الجزائر”.
تحولت الجزائر إلى “جمهورية بحرية” فعّالة، تسيطر أساطيلها على غرب المتوسط. لعب “القراصنة” الجزائريون (أو المجاهدون البحريون كما يُعرفون محلياً) دوراً محورياً في موازنة القوى، حيث كانوا يهاجمون السفن التجارية للأوروبيين المسيحيين ويأسرون بحارتها، مما فرض الجزية على العديد من الدول الأوروبية التي كانت تدفع مقابل حماية سفنها. ارتبط بهذه الفترة أيضاً “تجارة الرقيق” البيض، حيث كان الأوروبيون الأسرى يُباعون كعبيد أو يفادون مقابل فدية. هذا العصر الذهبي خلّف إرثاً معقداً: من ناحية، هو رمز للسيادة والمقاومة ضد الهيمنة الأوروبية المبكرة، ومن ناحية أخرى، استُخدم لاحقاً من قبل الدعاية الاستعمارية لتبرير الغزو بوصفها “حملة تحضر ضد قراصنة متوحشين”.
الطمس المنهجي: الاستعمار الاستيطاني الفرنسي (1830-1962)
إذا كانت الغزوات السابقة، بما فيها العثمانية التي حافظت على النسيج الاجتماعي والديني للمجتمع، قد أضافت طبقات دون محو السابقة، فإن الاستعمار الفرنسي جاء بمشروع مختلف جذرياً. لم يكن احتلالاً عادياً، بل كان استعماراً استيطانياً يهدف إلى إحلال مجتمع مكان آخر.
منذ اليوم الأول للغزو في 1830، شنّت فرنسا حرباً شاملة ليس على الأرض فحسب، بل على الذاكرة والهوية. يمكن تلخيص مظاهر الطمس الثقافي في:
1. مصادرة الأرض وهندسة الديموغرافيا: مصادرة الأراضي الخصبة ومنحها للمستوطنين الأوروبيين (الذين سُمّوا لاحقاً بـ “الأقدام السوداء”)، لتحويل الجزائر إلى “فرنسا عبر البحر”. هدف المشروع إلى تقليص السكان الأصليين إلى أقليات مهمشة في أرضهم.
2. الإبادة والتدمير: ارتكبت فرنسا جرائم حرب مروعة، من إبادة قبائل بأكملها (كما حدث مع قبائل العوفية في كهوف الغارف)، إلى سياسة “الأرض المحروقة” التي قادها الماريشال بيجو، والتي هدفت إلى كسر إرادة المقاومة من خلال تجويع الشعب وتدمير ممتلكاته وتراثه.
3. طمس الهوية واللغة: أصدرت الإدارة الاستعمارية مراسيم تعتبر العربية لغة أجنبية، بينما حظيت اللغة الفرنسية بالصدارة. منع تدريس التاريخ واللغة العربية، وحُوربت الثقافة والدين الإسلامي بشكل منهجي. حاول الاستعمار تخليق “شعب فرنسي مسلم”، منفصل عن جذوره العربية الإسلامية والأمازيغية، ومقطوع الصلة بماضيه.
4. تشويه التاريخ: عملت الآلة الدعائية الفرنسية على تشويه تاريخ الجزائر، ووصفها بـ”أرض بلا تاريخ” قبل قدوم فرنسا، ونشر صورة نمطية عن الجزائريين كمتخلفين يحتاجون إلى “رسالة تحضير”.
المقاومة وحرب التحرير: صون الذات
لم يستسلم الشعب الجزائري لهذا المشروع. قامت سلسلة من المقاومات الشعبية الباسلة، بقيادة شخصيات مثل الأمير عبد القادر، وبلغت ذروتها في ثورة التحرير الوطني (1954-1962). كانت الحرب، التي كلفت أكثر من مليون ونصف مليون شهيد، ليس فقط معركة للتحرير الوطني، بل كانت أيضاً معركة وجودية للدفاع عن الهوية والحفاظ عليها من الإبادة الكاملة. كانت الثورة هي الرد الحاسم على محاولة الطمس، وهي التي أعادت للشعب الجزائري سيطرته على مصيره وهويته.
رحيل الأقدام السوداء واستقلال مرير
بعد استقلال الجزائر في 1962، كان مصير المجتمع الاستيطاني محتوماً. اتفاقيات إيفيان لم تُقدم ضمانات كافية للمستوطنين، وخوفاً من انتقام جماعي وهيمنة ثقافة حاولوا قمعها لعقود، فرّ الغالبية العظمى من الأقدام السوداء (نحو مليون شخص) إلى فرنسا في موجات ذعر جماعي، تاركين وراءهم ممتلكاتهم وحياتهم السابقة. كان رحيلهم صدمة ثقافية واقتصادية لفرنسا والجزائر على حد سواء، وختماً لمشروع استيطاني فاشل، لكنه خلّف وراءه جراحاً نفسية وتاريخية لم تندمل تماماً في كلا الضفتين.
الخاتمة: ذاكرة تتحدى النسيان
اليوم، تحمل الجزائر في عمقها آثار هذه الصدمات التاريخية المتلاحقة. لا تزال معركة استعادة الذاكرة الجماعية وإحياء اللغة العربية والأمازيغية (التي اعترفت بها كلغة وطنية ثم رسمية) جارية. آثار الطمس الثقافي الفرنسي لا تزال مرئية في هيمنة اللغة الفرنسية في بعض القطاعات، وفي الصراع الهوياتي أحياناً بما في ذلك سنوات ارهاب الجماعات التكفيرية المسلحة المعروفة بالعشرية السوداء حتي قرب نهاية القرن العشرين. لكنها وصلابة الشعب الجزائري، وقدرته على الصمود عبر قرن وثلاثة عقود من الاستعمار الوحشي، تثبت أن محاولات الطمس، مهما بلغت قسوتها، قد تتمكن من تشويه الهوية مؤقتاً، لكنها تفشل في محوها من الوجود. تاريخ الجزائر هو شهادة على أن الثقافة والهوية هما آخر ما تموت في الأمم، و ان قصر الهوية علي حقبة واحدة او اكثر من تاريخ ممتد لآلاف السنين هو مقدمة لصراع هوية مجتمعي ثقافي و حضاري يهدر مقدرات الأمة و طاقات مواطنيها، و لا يهدأ او يدفع الي الاستقرار و الوفاق و السلم مالم يتم وعي و استيعاب التأثيرات الثقافية و العرقية و إسهاماتها الحضارية المتعاقبة المكونة لتاريخ الأمة.