يشهد عالم اليوم تغييرات متسارعة على جميع المستويات الاقتصادية والسياسية، ويسود النظام الدولي مجموعة من التحولات والتناقضات ما بين مزيد من التعددية ومزيد من الحمائية، وما إلى ذلك من مشاهد جيو-استراتيجية تضع القارة الإفريقية أمام تحديات ضخمة واستثنائية، وتفتح في الوقت نفسه فرصاً متنوعة من المهم الاستفادة منها وتوظيفها لصالح تطوير حياة الشعوب الإفريقية وتحقيق أهداف الاستدامة.
ومن بين الأولويات المُلحة التي تلفت انتباه مراكز الفكر والمهتمين بالشأن الإفريقي، انتقال القارة إلى مربع المساهمة في مبادرات التحول للاقتصاد الرقمي، وليس الاكتفاء بموقع المستهلك. كما تهتم دوائر الفكر والدراسات الاستراتيجية بالتوجه إلى حوكمة المناخ في إفريقيا، إذ تبذل دول القارة جهوداً ملحوظة لجذب الاستثمارات الخضراء، وبدأت تحالفات إقليمية لأسواق الكربون في الظهور بشرق القارة وغربها، وتأتي صناديق الاستثمار الإماراتية في مقدمة شركاء القارة الإفريقية لتحقيق الاستدامة البيئية.
ولا يكتمل الحديث عن التنمية في القارة الإفريقية دون التطرق إلى أبرز المنابر التي تناقش واقع ومستقبل التنمية، إذ تحرص مصر وباقي الدول الإفريقية على المشاركة في قمم «التيكاد» (مؤتمر طوكيو الدولي للتنمية في إفريقيا) والاجتماعات الوزارية، لما لذلك المحفل من حضور متميز وما يطرحه من مبادرات فاعلة تجاه القارة.
و«التيكاد» منبر تنموي يضم إلى جانب قادة الدول ورؤساء الحكومات، ممثلين عن القطاع الخاص ورجال الأعمال من الأقاليم الجغرافية المتنوعة، وكذلك الهيئات الاقتصادية والمؤسسات الدولية والإقليمية المهتمة بالأنشطة الاقتصادية والتنموية في القارة السمراء وفي مقدمتها بنك التنمية الإفريقي، وإن كانت الدورة التاسعة تنعقد في ظل سياق دولي مغاير لما سبقها من دورات، نتيجة للتحركات التي قد تُفضي إلى إعادة تشكيل النظام التجاري العالمي، وما نشهده مؤخراً من تحولات جيوسياسية، وبروز الضغط الاقتصادي كأداة دبلوماسية متقدمة لحصد المنافع، وكذلك تنامي وتيرة الاهتمام بإفريقيا والنظر إليها باعتبارها قارة الفرص والموارد المستقبلية.
هذا، وتنعقد الدورة التاسعة من «التيكاد» في الفترة من 20 إلى 22 أغسطس 2025، ويسبقها اجتماعات كبار المسؤولين في مدينة يوكوهاما. وتركز محاور النقاش الرئيسية على موضوعات ذات صلة بثلاثة محاور: المجتمع، والاقتصاد، والسلام والاستقرار. وينعقد بالتوازي مع القمة معرضٌ يضم شركات متوسطة وصغيرة الحجم تغطي مجالات الرعاية الصحية، وسلاسل الغذاء، وحلول المناخ، والمهارات المستقبلية، والتنمية الحضرية المستدامة. كما تجدر الإشارة هنا إلى وجود توافق بين العواصم الإفريقية على تحويل التحديات إلى فرص تستفيد منها دول القارة، والتوافق أيضاً على أهمية تنويع الشراكات الاستراتيجية مع الدول المؤثرة على الساحة الدولية.
في واقع الحال، تُقدم اليابان نفسها بوصفها داعماً للتنمية في إفريقيا، وشريكاً لدول القارة الطامحة إلى تطوير قطاعات اقتصادية واجتماعية حيوية مثل التعليم والصحة النقل، تعزز من جاذبيتها للتجارة والاستثمار. ومن جهتها، تدرك غالبية الدول الإفريقية أن القارة – جغرافياً وديموغرافياً – تحتاج إلى الكثير، وأن تطوير البنية التحتية والقدرات المؤسسية وتحديث المجتمعات يساهم في التصدي للتحديات الاستثنائية وأبرزها نقص القدرات في قطاعات التكنولوجيا الرقمية.
وقد بدأت بعض دول القارة تأسيس شراكات مع المؤثرين الدوليين في مجالات الذكاء الاصطناعي، وتقديم القارة الإفريقية في ثوبها الجديد الأكثر انفتاحاً على الاقتصاد الرقمي، وهو ما يظهر بقوة في مشروعات كبرى مؤخراً، مثل إطلاق خريطة جغرافية رقمية شاملة بهدف تكامل الأسواق الرقمية، ويُعد ذلك التحرك بمثابة نقلة نوعية حيوية لتطبيق الذكاء الاصطناعي في خطط التنمية بالقارة السمراء.
وإدراكاً لحجم مسؤوليتها إزاء قضايا القارة التي تنتمي إليها، تسعى مصر إلى دعم الجهود الإفريقية والإقليمية والدولية لمواجهة التحديات التي قد تعرقل تطلعات كل دولة إفريقية إلى مستقبل أكثر ازدهاراً وأمناً، بما في ذلك تعميق أطر الحوار والتعاون مع مختلف التجمعات على الساحة الدولية بغرض تعزيز التكامل الاقتصادي بين الأسواق الإفريقية وتحفيز دول القارة على الاستفادة المُثلي من مواردها البشرية والاقتصادية.
وتولي مصر المبادرات الدولية والإقليمية الهادفة إلى بناء وتحديث القدرات وتعزيز التنمية أهمية قصوى، من خلال آليات ومؤسسات عدة، من بينها «الوكالة المصرية للشراكة من أجل التنمية»، التي تحرص على دعم مبادرات ومشروعات التنمية في الدول الإفريقية في إطار التوجه الثابت والراسخ والمستدام للدبلوماسية المصرية بتشجيع أطر تعاون الجنوب – الجنوب، سواء التقليدية أو المستحدثة.
وفي هذا الإطار، جاءت جولة وزير الخارجية المصري الدكتور بدر عبدالعاطي في يوليو الماضي، والتي شملت عدد من الدول ( نيجيريا والسنغال وتشاد والنيجر ومالي وبوركينا فاسو ) ورافقه خلالها مجموعة من رجال الأعمال وممثلي المؤسسات الصناعية بهدف تعزيز النقاش حول فرص التبادل التجاري والاستثمار. وتفتح هذه الجولة، وما شهدته من لقاءات رفيعة المستوي، أبواباً جديدة لتطوير التعاون بين مصر ودول قارتها السمراء، ولاسيما في القطاعات الأكثر تطوراً في مجال التكنولوجيا، بوصفها طريقاً إلى صناعة المستقبل الأفضل للقارة وشعوبها.