ما الذي جعل منظمة اليونسكو تحتفي بمئوية فنان عربي، و حفز محرك البحث جوجل علي الاحتفال ١١٠ عاما من ميلاده؟ و لماذا تمنحه مصر و لبنان و فرنسا أرفع أوسمتها، و تنتشر أعماله في أوروبا و روسيا و تركيا و ألمانيا و فرنسا و إنجلترا و تخلد حتي بعد نصف قرن من وفاته، و تنشر عن حياته عشرات الكتب؟ كيف تتسع حياة فنان حتي توفاه الله عن عمر ٥٧ عاما لأن يكون بطلا في ٣١ فيلما، و مغنيا في ٢٢٨ اغنية بكلمات ٣١ شاعرا وملحنا لاغاني ٢٥ مطربا، و أفضل لاعب عود يجيد أيضا اللعب علي البيانو، غير ما أنتجه من موسيقي الأفلام التصويريه، و كونه موسيقارا يدمج الموسيقي الكلاسيكية و إيقاعات التانجو و الرومبا و يدخل الالات الغربية دون ان يفقد هويته الشرقية؟ و كيف تأثر بالكلاسيكيات خاصة الاسپانية و وظف الأوركسترا الغربي في عزف الألحان الشرقية بثورة علي التقليدي في عرض القصائد العربية في الحان بقوالب موسيقية غربية و أوروبية تجاري الكلمات، بما يشمل انتقالًا سلسًا بين عزف الكمانات والبيانو وآلات النفخ الغربية وبين الآلات الشرقية كالطبول والقانون، مما يضفي شجنًا شرقيًا أصيلًا مع لمسة عالمية؟ لماذا عزف اوركسترا فرانك پورسيل و پول موريا العالمي ألحانه في فرنسا،، و قام مغنيون في فرنسا مثل داليدا و إنريكو ماسياس و في تركيا و الجزائر و إسبانيا و روسيا باستعمال ألحانه في اغاني تم أداءها بثماني لغات؟
ولد فريد الاطرش عام ١٩١٧ في جبل الدروز بسوريا ، و هو و اخته آمال الشهيرة بأسمهان من ذرية الأمير فهد فرحان الأطرش من زوجته الأميرة والمطربة عالياء بنت المنذر ، و إضطرا في طفولتهما الي الهجرة معها و اخيهم فؤاد الي القاهرة هربا من بطش الاستعمار الفرنسي الذي حاربه الوالد لدوافع وطنية، فعاني الفقر و الحرمان من الوالد رغم نبل نشأته، لذا عمل اولا ببيع القماش و ترويج الإعلانات ، حتي أصبح عازفا و مغنيا في فرق، ثم اتيحت له فرصة الغناء الفردي و تكوين فرقته الموسيقية، و رغم عدم إكماله الدراسة في معهد الموسيقي الشرقية لحدث طارئ إلا انه وجد من دعمه، و وجهه للغناء رغم تميزه في اللعب علي العود حتي اختير عام ١٩٦٢ كأبرع عازف عود.
كانت والدته تتقن الغناء والعزف على العود، ولجأت إليه كمصدر رزق في أوقات الشدة. هذا القرب من الموسيقى في سنواته الأولى، وتلقيه الدروس الأولية على يد والدته، غرس فيه الشغف العميق بالفن. كما كان التراوح بين نبل النشأة و تحديات الحرمان و الفقر وراء اتقاد شغفه الفطري بالموسيقي و عبقريته و حسه المرهف ، بما خلق لديه حساسية مفرطة وعمقًا عاطفيًا، انعكس بوضوح في ألحانه وأغانيه التي تميزت بالشجن والصدق العاطفي. و هو ما زاد فيما بعد بوفاة اخته أسمهان و إصابته بأزمات قلبية و صدمة نفسية، جعلته ينغمس في العمل، و يقلع عن عادات سيئة شاعت قديما كالقمار.كما كان تقلب أحواله بين النشأة و النزوح من دوافع سعيه للكمال و جرأته علي الابتكار و التجديد وتجاوز الأنماط التقليدية في الموسيقي و مزج الفن الشرقي و الغربي و بين المقامات العربية الأصيلة والأنماط الموسيقية العالمية، بما جعله مستساغا في الغرب و العالم العربي، و عرضت موسيقاه في مهرجانات دولية.
كان فريد الأطرش معروفًا بطيبة خلقه وأريحية سمحة وإنسانية صادقة. هذه الصفات، بالإضافة إلى تجاربه الشخصية المؤلمة، جعلته فنانًا قريبًا من وجدان الجمهور، يعبر عن مشاعرهم وأحاسيسهم بصدق وعمق، سواء في أغاني الحب والفراق أو الأعمال الوطنية. و كان يمتلك حسًا فريدًا في اختيار الكلمات وتلحينها بطريقة تجعلها تتغلغل في الوجدان. فقدرته على التعبير عن المشاعر الإنسانية المشتركة، مثل الحب والفراق والشجن و رقي أسلوبه و مشاعره بحكم نشأته النبيلة جعلت موسيقاه، و كلاسيكياته مثل “لحن الخلود ” و ” بنادي عليك” و ” نجوم الليل” تتجاوز حواجز اللغة والثقافة وتصل إلى قلوب الملايين حول العالم، كرمز للفن الذي يجمع بين الأصالة والتجديد، والعمق العاطفي والبراعة الموسيقية.
عمل فريد الأطرش مع فنانين وملحنين أجانب، مما ساهم في تبادل الثقافات الموسيقية وإثراء تجربته الفنية، وفتح آفاقًا جديدة للموسيقى العربية. وقدم مقطوعات موسيقية منفردة أظهرت إمكانياته الفنية العالية وتقنيته الفريدة. كان العود رفيقه الدائم، ومن خلاله، عبر عن أعمق مشاعره وأفكاره الموسيقية.
كان لديه رؤية فنية واضحة، وعمل بجد لتحقيقها، سواء في تلحين الأفلام أو الأغاني الطربية. لم يكن مجرد مؤدٍ، بل كان قائدًا وملهمًا. أثر على العديد من الموسيقيين والمطربين في عصره، وشجع على ظهور أنماط موسيقية جديدة. و رؤيته الفنية ثاقبة، وقدرته على استشراف المستقبل الموسيقي جعلت منه رائدًا.
يُعد فريد الأطرش رائدًا في مجال الموسيقى التصويرية للأفلام المصرية. أضاف بعدًا جديدًا للسينما المصرية بألحانه التي كانت تخدم الدراما وتعمق المشاعر. لم تكن هذه الألحان مجرد خلفية موسيقية، بل كانت جزءًا أساسيًا من السرد السينمائي، مما رفع من مستوى الفن السينمائي في مصر في افلام تميزت بالرومانسية و العطاء و اعلاء القيم السامية و رقة الكلمات و الإسلوب.
هو فنان شامل مجدد و منفتح ، لقبوه بمايسترو الأزمان و ملك العود، نقل الفن المصري الي العالمية، و مازال إرث فريد الأطرش حيًا في العديد من الثقافات حول العالم. تُعزف ألحانه وتُغنى أغانيه في مهرجانات عالمية، ويُحتفى به كواحد من أهم رواد الموسيقى العالمية. تأثيره يظهر في العديد من الأعمال الموسيقية المعاصرة التي تستلهم من ألحانه وأسلوبه. فريد الأطرش كان أكثر من مجرد فنان؛ كان ظاهرة فنية متكاملة، جمعت بين العبقرية الموسيقية والحس الإنساني العميق. ترك بصمة لا تُمحى على الفن المصري والعربي، وساهم في نشر جمال هذه الثقافة إلى أرجاء العالم بإلهام و نبل خلد ألحانه عبر الأزمان.
طبيب و سفير سابق
د. هادي التونسي