في مدينة لا تتوقف عن التجدّد، تقف ساحة جندارمن ماركت (Gendarmenmarkt) وسط العاصمة الألمانية برلين كتحفة معمارية وثقافية تختصر قرونًا من التعايش والتنوع والتنوير. هذه الساحة التي تعود جذورها إلى القرن السابع عشر، تحولت عبر الزمن من ساحة عسكرية إلى واحدة من أجمل الساحات الأوروبية، ومن منصة للاحتفالات الملكية إلى مركز للتبادل الثقافي والعلمي.
تحيط بالساحة ثلاث أيقونات معمارية تتحدث كل منها بلغة مختلفة، لكنها تنشد المعنى ذاته: التعايش والإنسانية. من جهة، ترتفع الكنيسة الفرنسية (Französischer Dom) التي شيّدها الهوغونوت الفرنسيون اللاجئون من الاضطهاد، وعلى الطرف المقابل الكنيسة الألمانية (Deutscher Dom) التي تمثل العمارة الباروكية في أبهى صورها، وبينهما تتوسط الساحة قاعة الحفلات “Konzerthaus Berlin”، التي كانت دارًا للأوبرا وأصبحت اليوم مسرحًا للأصالة الموسيقية الأوروبية.
ووسط هذا المشهد الغني بالتاريخ، تتجدد الحياة كل صيف مع مهرجان “كلاسيك أوبن إير” الذي يُقام هذا العام من 17 إلى 21 يوليو 2025، حيث تتحول جندارمن ماركت إلى مسرح مفتوح يستقبل آلاف الزائرين من محبي الموسيقى من جميع أنحاء العالم. بمشاركة أسماء لامعة مثل أنا نيتريبكو ونايجل كينيدي وجوانا مالفيتز وجريجوري بورتر، يشهد المهرجان عروضًا تمزج بين الموسيقى الكلاسيكية والجاز والروح، في أجواء لا تُنسى تصطف فيها الأرواح كما تصطف الأبنية، لتُعيد تعريف مفهوم الاحتفال بالفن.
غير بعيد عن الساحة، وضمن نفس الحي الثقافي الراقي، يقع مبنى منتدى العلوم في برلين (WissenschaftsForum Berlin)، الذي يُعد أحد أبرز المراكز الفكرية في المدينة. يقع المنتدى على بعد خطوات من جندارمن ماركت، ويعمل كمحطة استراتيجية للتفاعل بين العلم والسياسة والدبلوماسية، حيث يستضيف مكاتب اتصال لمؤسسات علمية وتعليمية كبرى، ويُوفر مساحة مستدامة للقاءات الوطنية والدولية بين الباحثين وصناع القرار والبعثات الدبلوماسية.
يحمل المنتدى خصوصية كبيرة، فهو ليس مجرد مبنى إداري، بل مساحة تأثير علمي في قلب العاصمة السياسية. من داخله، تُنسج السياسات البحثية، وتُبنى شبكات تعاون دولي، وتسهم الجامعات والمؤسسات المقيمة فيه – مثل الجامعة الألمانية الدولية (GIU Berlin) – في رسم ملامح التعليم والابتكار في المستقبل.
إن تقاطع المسارات بين الموسيقى والفكر، والتاريخ والمعمار، والسياسة والعلم في هذه البقعة من برلين، لا يمثل فقط ميزة حضارية، بل يعكس رؤية ألمانية راسخة بأن المدن لا تُبنى بالجدران فقط، بل بالعقول والأصوات واللقاءات. ففي جندارمن ماركت، لا تذوب الحدود بين الكنائس فقط، بل أيضًا بين الفنون والعلوم، لتصنع مدينة تتنفس التنوع وتحتفل بالاختلاف.