يُعدّ الفن منذ نشأته وسيلة تعبير حضارية تنقل نبض الشعوب، وتعكس تطلعاتهم وتحدياتهم. وعلى مدار عقود، لعب الفن المصري دورًا رائدًا في تجسيد معاناة البسطاء، وكفاحهم اليومي في مواجهة مصاعب الحياة، عبر أعمال خالدة مثل “الأرض” ليوسف شاهين، و”سواق الأتوبيس”، و”الكيت كات”، وغيرها من الأعمال التي أنصفت المواطن العادي، واحتفت ببطولاته اليومية.
إلا أنّ ما نشهده في السنوات الأخيرة، وتحديدًا في الموسم الرمضاني الذي يُعد أضخم منصات الدراما العربية، يمثل تحولًا مقلقًا في بوصلة الفن، حيث أصبح التوجه العام يميل إلى السطحية والابتذال، متأثرًا بثقافة “التريند” ومواقع التواصل الاجتماعي، التي باتت تتحكم في الذوق العام، وتفرض رموزًا لا تمت بصلة إلى القيم الفنية أو الثقافية الراسخة.
وفي هذا السياق، أثار ظهور بعض الشخصيات، وعلى رأسها الفنان محمد رمضان جدلًا واسعًا، بعد تقديمه مشاهد استعراضية مبتذلة، تمثلت في ارتداء بدلة رقص، في مشهد لا يتسق مع أبجديات الذوق العام، ولا يحمل أي بعد فني أو درامي حقيقي. هذه المشاهد التي تلقى ترويجًا إعلاميًا واسعًا، تعكس أزمة حقيقية في المعايير التي يتم من خلالها تقييم الأعمال الفنية وتحديد أولويات العرض.
المؤسف في الأمر، أنّ هذه النوعية من “المشخصاتية” تُقدَّم على أنها “ظاهرة فنية”، بينما يُقصى أصحاب المواهب الحقيقية، والفنانون الذين يحملون رسائل هادفة دون اتاحة.الفرصة لهم، فضلًا عن تجاهل نماذج مشرّفة في المجتمع من معلمين، وعمال، ومهنيين يسهمون في بناء الوطن، دون أن يحظوا بنصف هذا الاهتمام الإعلامي.
إنّ الفن حين يُختزل في صورة استعراضية جوفاء، وعبارات استهلاكية بلا مضمون، يفقد دوره كوسيلة تهذيب وتنوير، ويتحول إلى أداة للهدم وتشويه الوعي. والمجتمع المصري، بأصالته وتاريخه الطويل، لا يمكن أن يكون مرآة لهذه النماذج، التي تُسهم في خلق صورة كاريكاتيرية لا تليق بحضارته وهويته.
من هنا، فإن المسؤولية تقع على عاتق كافة الأطراف المعنية: النقاد، والمثقفين، والمؤسسات الإعلامية، ووزارات الثقافة والإعلام، بل وحتى الجمهور، من أجل تصحيح المسار واستعادة الفن لدوره التنويري والتثقيفي.
ولا نعترض هنا على أشخاص بعينهم، فكل إنسان مخلوق مكرّم، ولكننا نرفض بشدة ما يتم الترويج له من إساءات فنية تمس الذوق العام، وتنعكس سلبًا على أجيال نشأت على أعمال فنية راقية حملت رسائل إنسانية ووطنية عميقة.
يبقى الفن مسؤولية وطنية وثقافية، لا يجب أن يُترك فريسة للابتذال، ولا أداة لتمرير أنماط هابطة من التفكير والسلوك، بل ينبغي أن يظل مرآة صادقة تعكس طموحات المجتمع، وتُكرّم رموزه الحقيقية، وتنهض بالوعي العام نحو الأفضل.