مازال الحراك الذي يحدثه الرئيس ترامب – قبل ومنذ توليه منصبه رسمياً – يشغل مساحة كبيرة من إهتمامات وسائل الإعلام ومراكز الفكر الدولية ، لاسيما أن تحركاته وتصريحاته تمثل خروجاً عن المحددات التقليدية التي تتحرك في إطارها الدبلوماسية الأمريكية ( العلاقات مع روسيا – مستقبل حلف الناتو – الأمن الأوروبي ) ، وبصرف النظر عن المواجهات الكلامية التي شهدها البيت الأبيض خلال زيارة الرئيس الأوكراني زيلينسكي ، فإن دائرة التصريحات الجدلية من جانب ترامب تتسع لتشمل قضايا ودول متنوعة ، وفي حين تم التراجع – نسبياً- عن بعد التصريحات الحادة خاصة فيما يتعلق بتوجه ترامب نحو تأجيل فرض رسوم جمركية علي المكسيك وكندا، فقد وقَّع الرئيس الأمريكي أمرًا تنفيذيًا الأسبوع الماضي بفرض رسومٍ جمركية بنسبة 20% على الصين، وسيتم فرض رسومٍ إضافية بنسبة 10% على الصادرات الصينية، تُضاف إلى الـ10% التي فرضها “ترامب” في وقتٍ سابق من هذا العام الجاري.
أما عن العلاقات التقليدية مع القارة العجوز ‘ أوروبا ‘كشفت صحيفة “التلغراف” مؤخرًا أن الرئيس الأمريكي يدرس سحب 35 ألف من القوات الأمريكية في ألمانيا وإعادة نشرها في أوروبا الشرقية، وهذه الخطوة ستزيد من توتر العلاقات بين الولايات المتحدة وأوروبا، علماً بأن الصحيفة قد نشرت أول أمس خبراً يُفيد بأن الولايات المتحدة قد أبلغت حلفاءها أنها لن تشارك بتخطيط المناورات العسكرية في أوروبا، بدءًا من العام المقبل، وقرار “واشنطن” يعني أن قواتها لن تشارك في المناورات مع نظيرتها الأوروبية أو أن مشاركتها ستكون محدودة.
وتناولت تقديرات إعلامية نوايا ‘ الرئيس ترامب ‘ إعطاء ظهره لحلف الناتو وأشارت صحيفة ‘ ديلي ميل ‘ البريطانية إلي تفكير ترامب في التخلي عن الدور القيادي لبلاده في حلف «الناتو»، ويُصرُّ على أن تتحمَّل المملكة المتحدة وفرنسا مزيدًا من المسؤولية فيه، وذلك بعد أن فاجأ الحلفاء الغربيين بتعليق المساعدات العسكرية الحيوية إلى أوكرانيا، إثر «شجار البيت الأبيض» ، ويأتي ذلك في وقتٍ أبْدى فيه كلٌّ من «ستارمر» و«ماكرون» استعدادهما للسفر إلى «واشنطن» مع «زيلينسكي» لتقديم «جبهةٍ موحَّدة» بشأن خطة للسلام في أوكرانيا .
دفعت تلك التقلبات في محددات السياسة الخارجية الأمريكية الدورية السياسية ذائعة الصيت The National Interest لنشر تقرير يحمل عنوان ‘ لماذا لا يستطيع ترامب تحقيق السلام في أوكرانيا أو غزة !؟’ ويركز علي أن مساعي صُنْع السلام من قِبَل الولايات المتحدة من دون وجود أطرافٍ راغبة ــ سواء بين روسيا وأوكرانيا، أو بين إسرائيل وحماس ، فمن المؤكَّد أن يأتي بنتائج عكسية ويزرع بذور مزيدٍ من الحرب.
هذا، وقد ذهب التقرير إلي حد الجزم بأن استماتة «واشنطن» لتحقيق السلام، حتى لو كان سلامًا أجوفًا لا يُوفِّر سوى فترة راحةٍ قصيرة قبل عودة القتال، قد تجعل الحرب أكثر ترجيحًا في أماكن أخرى ، وأنه مهما كانت «العصا والجزرة» المتاحة في يد «واشنطن» قوية، فإنها لا تستطيع فرض السلام من الخارج، والأسوأ من ذلك في تقدير كاتب التقرير ‘ لورانس جيه هاس ‘ أن واشنطن التي تبدو باحثةً من أجل السلام ــ بغضِّ النظر عن عدالة شروطه، أو احتمالات استدامته ــ قد تمنح القادة في مناطق أخرى الذين يُفكِّرون في شن حروبهم الخاصة، ضوءًا أخضر.
وعليه ، إذا إنتقلنا إلي الأزمة الإنسانية المتواصلة في غزة سنجد أن المسألة ليست مجرد إتفاق وقف إطلاق النار بل ضمان إستدامته ، وكذلك هناك ضرورة مُلحة لتكثيف واشنطن التحركات الدبلوماسية الموضوعية وليست المنحازة ، من أجل إنهاء القرارات التعسفية التي تصدرها تل أبيب بين الحين والآخر بوقف دخول جميع السلع والإمدادات – ومنها المعدات الطبية – إلي القطاع ، ويضر عدم التحرك العاجل بمصداقية المجتمع الدولي وصورة واشنطن في المنطقة .
وهنا نستشهد بما تطرق إليه الرئيس المصري في الكلمة التي ألقاها في الجلسة الإفتتاحية للقمة العربية الإستثنائية وإشارة الرئيس عبد الفتاح السيسي إلي أن الذاكرة الإنسانية ستتوقف طويلاً أمام ما يحدث في غزة بعد ما استهدفت الحرب الضروس علي غزة تدمير أوجه وسبل الحياة ، فضلاً عن السعي المتواصل إلي تفريغ القطاع من سكانه . وفي حين أشاد الرئيس السيسي في كلمته بجهود واشنطن في التوصل لإتفاق لوقف إطلاق النار وإن ذلك ما كان ليتحقق من دون الجهود المُقدرة للرئيس ترامب وإدارته ، فقد أعرب ‘السيسي ‘ عن تطلع مصر والدول العربية أن تستمر وتتواصل جهود واشنطن لضمان إستدامة وقف إطلاق النار في غزة ، ونتطلع نحن أيضاً إلي دور أمريكي -موضوعي ومحايد نسبياً – فيما يتعلق بالأزمة الإنسانية الكارثية في غزة، وكذلك نتطلع إلي دعم أمريكي مباشر لجهود مصر والدول العربية في تسريع التعافي وإعادة الإعمار في غزة .
في سياقٍ موازٍ، بدأت تلك التقلبات تؤثر -سلباً – علي فئات مهمة بالرأي العام الأمريكي نفسه ، وأرسل دبلوماسيون في وزارة الخارجية والوكالة الأمريكية للتنمية الدولية، برسالةٍ إلى وزير الخارجية الأمريكي، يُعربون فيها عن احتجاجهم على قرار تفكيك الوكالة، وأكَّد كاتبو الرسالة أن غياب هذه الوكالة سيُؤدِّي إلى تقويض القيادة الأمريكية وأمنها، ويترك فراغًا للصين وروسيا. كما وجَّهت المحكمة العليا ضربةً لـ”ترامب” فيما يتعلَّق بتجميد المساعدات الخارجية؛ إذ أعادت العمل بقرار محكمةٍ أدنى يفرض الإسراع بصرف ما يصل إلى مليارَي دولارٍ مستحقة للمقاولين عن أعمالٍ تم إنجازها بالفعل.
تبقي العلاقات مع أوروبا هي الدليل الأبرز علي تقلبات السياسة الخارجية لواشنطن في الوقت الحالي ، فعقب خطاب ترامب أمام الكونجرس الأسبوع الماضي ، ومع الإقتراب من النصف الأول من الـ١٠٠ يوم الأولي ، تعتزم إدارة “ترامب” إغلاق عشرات القنصليات الموجودة بشكل رئيسي في أوروبا الغربية خلال الأشهر المقبلة، مع احتمال إغلاق المزيد من البعثات الدبلوماسية، الأمر قد يوجه ضربة لجهود بناء الشراكات وتعزيز القائم منها بين واشنطن والحلفاء الأوروبيين.