يُحْكَى أنْ أعرابياً كانَ يرفعُ علي بعيرِه ، حِمْلاً ثَقيلاً ، فرقَ قلبُ أحدِهم ، علي هَذَا البعيرِ المسكينِ ، فسألَ الأعرابيَّ عن محتواه ،
فقالَ الأعرابيُّ : كيسٌ يحوي المؤونةَ ، والكيسُ المُقابلُ يحوي تُراباً ! ليستقيمَ الوزنُ في الجهتين !
فتعجبَ الرجلُ ، وقالَ : لِمَ لا تستغني عن كيسِ التُرابِ ، وتوزعُ كيسَ المؤونةِ علي الجهتين بالتساوي ، فتكونَ قد خففتَ الحملَ على البعيرِ ، و رَحِمْتَهُ ؟!
فقالَ الأعرابيُّ : صدقتَ ..
وفعلَ ما أشارَ به عليه ، ثم عادَ يسألُه : هل أنتَ شيخُ قبيلةٍ ، أم شيخُ دينٍ ؟
فأجابَ الرجلُ : لا هَذَا ، ولا ذاكَ ، بل إنسانٌ من عامةِ الناسِ .
فقالَ الأعرابيُّ : قبحَك اللهُ ، لا هَذَا ، ولا ذاكَ ، ثم تُشيرُ عليَّ ؟! مَنْ أنتَ حتي تُقدمَ النصيحةَ لمثليِّ ؟! ثم أعادَ حمولةَ البعيرِ كما كانتْ !
هكذا هم كثيرٌ من الناسِ ، لا يهتمون بالأفكارِ ، وإنْ كانتْ صواباً ، بل يشغلُهم الأشخاصُ والألقابُ المُصدِرَةُ لتلكَ الأفكارِ ، وإنْ كانتْ خاطئةً !
رمى الخليفةُ المتوكلُ عصفوراً ، فلم يصبْه ، فقالَ له وزيرُه : أحسنتَ !
قالَ الخليفةُ : أتهزأُ بيَّ ؟!
فقالَ الوزيرُ : أحسنتَ إلي العصفورِ ، سيدي ! قد تتعجبون من هَذَا الحجمِ من النفاقِ ، وأنا أتعجبُ أكثرَ من ثباتِ هَذَا الوزيرِ وقناعاتِه بما يقولُ !
الحِكمَةُ ضَالَّةُ المُؤمِنِ ، فَخُذِ الحِكمَةَ ولَو مِن أهلِ النِّفاقِ ..
هكذا قالَ أميرُ المؤمنين ، عليٌّ ابنُ أبي طالبٍ ، رضي اللهُ عنه وأرضاه .
فقد تُساقُ الحكمةُ علي لسانِ المنافقِ أو الكافرِ ، وإنْ لم تتجاوزْ لسانَه ، وقد لا تُساقُ علي لسانِ المؤمنِ الصادقِ ، وقلبُه عامرٌ بها ، وبأكثرَ منها ، هُنا لا نبحثُ عن درجةِ الإيمانِ ، فهي مسألةٌ مردُها للهِ وحدَه ، بل نبحثُ عن درجةِ الإفادةِ من هَذَا الكلامِ ، للفردِ والمجتمعِ .
رسالةُ مُحمدِ ، صلي اللهُ عليه وسلمَ :
إِنَّمَا بُعِثْتُ لِأُتَمِّمَ مَكَارِمَ الْأَخْلَاقِ ..
قصراً وحصراً وإجمالاً ..
ولم يقلْ ( لآتيَّ ) بمَكَارِمَ الْأَخْلَاقِ ، وإنَّمَا ( لِأُتَمِّمَ ) ..
والمعني شديدُ الوضوحِ ، فالأخلاقُ ليستِ اختراعاً حديثاً ، وإنَّمَا سبقنا بها آخرون ، ولذلكَ لم يُنكر ( ص ) فضلَ الشرائعِ السابقةِ ، بل فضلَ بعضِ أصحابِ الشيمِ الطيبةِ ، التي كانَ يتحلي به كفارُ قريشٍ أنفسُهم ، كالكرمِ والشجاعةِ .
ومن أجلِ هَذَا الإنصافِ ، كانتْ رسالتُه ( ص ) عامةً شاملةً متكاملةً ، صالحةً للبقاءِ الدائمِ ، في كُلِّ زمانٍ ومكانٍ ، موضعَ تقديرِ واستحسانِ الدُنيا كُلِّها .
ومن هُنا كانَ الإقرارُ بوجوبِ ( قبولِ الآخرِ ) الذي ظنَ الكثيرون ، ظُلماً ، أنَّه مطلبٌ كانَ غائباً في الماضي ، وهم بحضارتِهم ! يستحضرونَه الآنَ !
سورةٌ من أعظمِ سورِ القُرآنِ الكريمِ ، ذُكرَ فيها أثنا عشرَ نبياً ، وبتكرارِ الاسمِ ، تسعةَ عشرَ نبياً ، زكريا ، يحيى ، عيسى ، إبراهيم ، موسى ، هارون ، إسماعيل ، إدريس ، إسحاق ، يعقوب ، آدم ، نوح ..
ورغمَ ذلكَ كُلِّه تُسمي السورةُ ( مَرْيَم ) تكريماً لتلكَ التقيةِ النقيةِ : وَإِذْ قَالَتِ الْمَلَائِكَةُ يَا مَرْيَمُ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَاكِ وَطَهَّرَكِ وَاصْطَفَاكِ عَلَى نِسَاءِ الْعَالَمِينَ ( آل عمران ) ..
الملائكةُ تُعلنُ البيانَ ، والقرارُ من اللهِ سُبحانَه ، باسمِه الأعظمِ ، والتطهيرُ بينَ اصطفائين ، لا اصطفاءٍ واحدٍ ، والاصطفاءُ ليسَ علي المستوي المحدودِ ، بل علي نِسَاءِ الْعَالَمِينَ ! قمةُ التشريفِ والتكريمِ ..
فيما القُرآنُ الكريمُ كاملاً ، ليسَ فيه سورةُ واحدةٌ ، أو حتي ذكرٌ بالاسمِ ، لأبي بكرٍ ، أو عمرَ ، أو عثمانَ ، أو عليٍّ ، أو خديجةَ ، أو عائشةَ ، أو فاطمةَ ، رضوانُ اللهِ عليهم جميعاً ، علي عظيمِ مكانتِهم ، وارتفاعِ شأنِهم .
إنَّ كثيراً من هؤلاءِ الذين أخذوا العلمَ دونَ أستاذٍ مُصلحٍ ، أو شيخٍ مُعلمٍ ، أخذوه من الكُتبِ ، ولم يفهموه ، وربما قرأوا صفحاتٍ معدودةً ، من كُتبِ ابنِ تيميةَ ، أو ابنِ عبدِ الوهاب ، ولم يُكملوها ! وأصبحَ جُلُّ كلامِهم : هَذَا الحَدِيثُ ضَّعِيفٌ !
وما أدراكَ أنَّه ضَّعِيفٌ؟ فلربما يُروي من طريقٍ آخرَ يُقويه ، فيكونُ قوياً ، حتي لو كانَ ضعيفاً ، فقد أجازَ الإمامان العظيمان ، ابنُ كثير ، وابنُ القيم ، العملَ بالحديثِ الضعيفِ في مكارمِ الأخلاقِ ، وفضائلِ الأعمالِ ، وهكذا أجازَ أيضاً أئمةُ المحدثين .
الحُرُ دوماً يدافعُ عن الفكرةِ ، بغضِ النظرِ عن قائلِها ، والعبدُ يدافعُ عن الشخصِ ، مهما بلغتْ درجاتُ انحطاطِ فكرتِه .
إِنَّ الغَنيَّ إِذا تَكَلَّمَ كَاذِباً ،،
قَالوا صَدَقْتَ ، وَما نَطَقْتَ مُحالاً ..
وَإِذا الفقيرُ أَصابَ ، قالوا لَمْ تُصِبْ ،،
وَكَذَبْتَ يا هَذَا ، وَقُلْتَ ضلالاً ..
إِنَّ الدَّراهِمَ فِي المَواطِنِ كُلّها ،،
تَكْسُو الرِّجَالَ مَهابَةً وجَلالاً ..
هي اللســـانُ لمَنْ ارادَ فصاحةً ،،
وهي الســلاحُ لمَنْ أرادَ قتـــالاً ..