مرت الذكري الأولي لحراك ٧ اكتوبر وسط تأهب في جميع أنحاء إسرائيل وإستنفار أجهزة الأمن في الضفة الغربية وغلاف غزة، وفي الأسبوع الماضي أظهر إستطلاع للرأي أن ٨٥٪ من الإسرائيليين يرفضون السكن او التواجد في مناطق غلاف غزة عقب إنتهاء الحرب ، و٦١٪ من الإسرائيليين يعانون من إنعدام الأمن الشخصي ، ومن المنتظر أن يشهد الشرق الأوسط تحولات جيوسياسية قد تمتد تأثيراتها لعقود ، وقد تظل ٢٠٢٣ سنة الأساس لتغييرات جديدة معادلات توازن القوي ( أسوة بـ٢٠٠١ و٢٠١١ ) ، وقد ينشأ عنها تحالفات إستراتيجية مغايرة لما كان قبل حراك ٧ أكتوبر ، سواء بين الدول الواقعة في منطقة الشرق الأوسط بتعريفها التقليدي أو المُحدث ، أو مع دول الأقاليم -التي ينظر لها علي أنها إمتداداً طبيعاً للمنطقة : شرق المتوسط ، الخليج ، القرن الأفريقي ، شمال أفريقيا – وكل هؤلاء مع الأقطاب الدولية ، وتتقدم الولايات المتحدة صفوف القوي المؤثرة في واقع ومستقبل المنطقة لحين إشعار آخر ، علماً بأن سياسة واشنطن بالشرق الأوسط مازالت تدور في فُلك الإطار الذي أرساه وزير خارجيتها الأسبق ‘كيسنجر ‘ بأن تظل الولايات المتحدة اللاعب الدولي الأهم في الشرق الأوسط ،وعدم السماح بأن تحل أية قوة دولية أخري في المنطقة ( روسيا سابقاً والصين في الوقت الحالي ) محل النفوذ الأمريكي، والذي تضاءل نسبياً خلال السنوات الماضية وبدأ في التعافي في النصف الثاني من ٢٠٢٣ أي قبل ٧ اكتوبر بعدة أسابيع .
وعلي الرغم أن الإنحياز التام لإسرائيل قد أضر كثيراً بصورة الولايات المتحدة في أوساط الرأي العام العربي إلا أن التحول الأهم هو ما شهده المجتمع الأمريكي من إنقسام عقب ٧ أكتوبر حول دعم واشنطن غير المشروط لتل أبيب ، وبدأت الفئات الشبابية تتحدث عن إرتكاب إسرائيل جرائم حرب وأنها تمارس في الأراضي الفلسطينية نظام عنصري ، وهو ما حفز بايدن علي توجيه إنتقادات – علي استحياء – إلي الحكومة البنيامينية ، وشهدت العلاقات بين الجانبين فتوراً ملحوظاً لم يلق ترحيباً في الدوائر الإعلامية الإسرائيلية ، وذهب أحد المحللين الإسرائيليين -في مقال بصحيفة معاريف في أغسطس ٢٠٢٤ – إلي حد وصف تحالف إسرائيل الإستراتيجي مع واشنطن بإعتباره وثيقة التأمين علي الحياة الوحيدة لدي إسرائيل.
المتتبع للأحداث وتطوراتها اليومية منذ أحداث ٧ أكتوبر يجد أن العالم قد وقع أسيراً لسلوكيات نتنياهو الذي يتحدي الجميع -داخل دولة الإحتلال وخارجها- لتجنب وصمه علي أنه المسئول الأول والوحيد عن ٧ أكتوبر ، لذلك فإن رئيس الوزراء -الأطول في تاريخ دولة الإحتلال -يدرك ما ينتظره من محاكمات فضاعف من مهاراته في خلط الأوراق والتصدي لكل المساعي الدبلوماسية لإحتواء التصعيد لوقف إطلاق النار وعودة النازحين الفلطينيين إلي ديارهم وتدفق المساعدات الإنسانية إلي غزة ، وعوضاً عن ذلك إستمر بنيامين في اختراع الذرائع لإشعال الجبهات بغرض نقل مستقبل الشرق الأوسط من مرحلة التمدد الإيراني إلي إرساء عمق إستراتيجي أوسع لدولة الإحتلال .
والمتتبع لمرحلة ما بعد مشاهد سديروت وغلاف غزة يجد أن تل أبيب وهشاشة التركيبة المجتمعية ضاعفت من أجواء الصدمة الحادة جراء إنكسار ‘ التابوهات’ مجدداً ، فالترويج المتواصل لنظريات الصهيونية والشعب المختار وجيش الدفاع الذي لا يقهر ( أفضل منظومة دفاع ضد الصواريخ في العالم ) لم تجد سبيلاً أمام هجوم ٧ أكتوبر إلا الفرار والإرتباك ، وهو أمر سبق حدوثه قبل ٥٠ عاماً بنموذج مختلف في ٦ أكتوبر ١٩٧٣ والمواجهة آنذاك كانت بين جيشين وفي أرض سيناء ، ولم يكن الجيش المصري رحيماً بقوات جيش الإحتلال ، وأنزل بها هزيمة خالدة بتاريخ الحروب العسكرية المعاصرة، لما شهدته من فكر إستراتيجي أجبر الصلف والتكبر الذي إتسم به قادة الجيش الإسرائيلي علي الإعتراف بأنها هزيمة نكراء وأجبرت ساساتهم علي بدء التفاوض حول أول الأطر المنظمة للسلام في المنطقة والذي تنشده الدول العربية وتكفر به دولة الإحتلال.
ووفقاً لوصف إعلاميين إسرائيليين فإن أحد العلامات الفريدة التي سجلتها الصدمة الحديثة في اكتوبر ٢٠٢٣ لسكان غلاف غزة وتبعاتها علي منطقة الجليل الأعلي شمال إسرائيل ، أنها تعد المرة الأولي منذ ١٩٤٨ يتم إخلاء سكان يهود ( سكان الشمال ) من بيوتهم ، علماً بأن ٧ أكتوبر جعلت جبهة الداخل في إسرائيل جبهة رئيسية للمعارك ، وهو المبرر الذي استندت إليه حكومة اليمين المتطرف عند إرتكابها أبشع الجرائم الإنسانية وإنتهاكات القانون الدولي وسط حصانة دولية سمحت لها بالقتل والتهجير للفلسطينيين ، وللتغطية علي الانتهاكات المتعددة فتحت جبهات أخري خارج قطاع غزة وكثفت الاغتيالات التي زادت من تأزيم الأوضاع السياسية والإنسانية في المنطقة.
وكما مضت الشهور والأيام ثقيلة علي سكان غزة كانت حركة المجتمع الدولي ثقيلة بحسابات – غير حيادية – لأقطابه سواء المناصرين بشكل علني لتل أبيب والمسلك الإجرامي لحكوماتها أو الممتنعين عن دعم الحق الفلسطيني ، بإستثناء تحركات كل من محكمة العدل الدولية والجنائية الدولية، ومع كل التقدير للتحرك غير المسبوق من منظومة العمل الدولي المشترك إلا أنه لم يضع حداً لمعاناة أكثر من ٢ مليون فلسطيني من حصار قاتل في غزة في ظل ظروف إنسانية متدهورة ، ولم يمنع الحكومة الإسرائيلية من ممارسات استيطانية وانتهاكات في الضفة الغربية ، وذلك التحرك من جانب المحكمتين لم يغير الإنطباع السائد لدي السواد الأعظم من الشعوب بأن المجتمع الدولي يغوص في بحر المعايير المزدوجة وأن مسلك الشعوب للإعراب عن تضامنها ( المقاطعة ) أثبت
جدواه ومنافعه للحق الفلسطيني كانت ومازالت أكبر ، لما تحمله صور المقاطعة من قيم إنسانية وتأثيرات إقتصادية قوية علي الأطراف الداعمة لدولة الإحتلال.
أما علي صعيد الجبهة الداخلية ، قبل السابع من أكتوبر كان المجتمع الإسرائيلي منقسماً حول الإصلاحات القضائية ، إلي أن تفاجأ بتوقف الزمن في ٨ أكتوبر ، وإنشغل المجتمع والإعلاميين والقوي السياسية بالحديث عن التجربة التي عاشها والتي شككتهم في كينونة إسرائيل ومدي نجاحها وفرص البقاء كدولة، وفي خضم الحرب في غزة ، لم يكن الداخل الإسرائيلي هادئاً وسعت قوي المعارضة إلي التخلص من حكومة اليمين المتطرف في عدة مناسبات ، ويبدو إنها إكتفت بالانتقادات وتنظيم الاحتجاجات والدعوة لعصيان مدني ، وإنشغل الإعلام الإسرائيلي لفترة ليست بقصيرة بالعلاقات بين إدارة بايدن وحكومة اليمين المتطرف وبقضايا تجنيد ‘ الحريديم ‘ ودورهم في حراسة المستوطنات والبؤر الإستيطانية العشوائية في الضفة الغربية، ولم تتردد حكومة الإحتلال في فتح جبهات أخري ( الهدف الأساسي لنتنياهو هو البقاء علي رأس السلطة التنفيذية ) وتكثيف الإغتيالات في صفوف المقاومة واستهداف قادتها ، ولا يخفي علي أحد أن إرتكاب جيش الاحتلال لعمليات الإبادة يتسق وأهداف رئيس الوزراء لتحقيق مكاسب سياسية تضمن له تماسك الإئتلاف الحكومي وإطالة أمد الحرب في غزة حتي الإنتهاء من الإنتخابات الأمريكية ، ولم يشغل باله كثيرا بمحادثات التوصل لإتفاق وقف إطلاق النار وصفقة الرهائن ، وعلي الرغم من ذلك الجبروت بالتوازي مع إقتحام الوزير المتطرف’ بن جفير’ لساحة المسجد الأقصى لم يخفي نتنياهو والأوساط السياسية في تل أبيب مخاوفهم من تقديمه للمحكمة الجنائية الدولية ، وإن كان التحسب لم يؤثر علي ما ترسخ بالعقلية الصهيونية ومخططاتها للتمدد وخلق عمق إستراتيجي أكبر لأرض الميعاد .
وإدراكاً من بنيامين بأنه المختار لتنفيذ ذلك
المخطط سعي إلي تغيير قواعد اللعبة بصفة خاصة تلك التي حددت شكل المواجهات بين إسرائيل والمقاومة اللبنانية لعدة سنوات وتطور الأمر من شكل ‘ القتال منخفض المستوي ‘ بينهما إلي تصعيد ومواجهات أعنف مع إستفزازات بجر المقاومة إلي مواجهات مفتوحة ونجح بنيامين – تكتيكياً – في توظيف الفترة التي تسبق الإنتخابات الأمريكية ( البطة العرجاء ) ، بالإنتقال إلي مرحلة الإستهداف المباشر لقيادات المقاومة اللبنانية وما إلي ذلك من تصعيد مضاعف للتوتر ومخاطر حرب شاملة في المنطقة، ونظراً لأن إحتمالات فوز هاريس وعدم عودة ترامب تعد الهاجس الأكبر علي حسابات نتنياهو ، تشير بعض التقديرات إلي تعمده إشعال جبهة الشمال لتعطيل أية تفاهمات محتملة بين الإدارة الديمقراطية وإيران ( علي أعتاب إكتساب القدرة النووية )
بصرف النظر عن إختلاف الأراء والتقديرات حول جدوي الإرتباط بين جبهة لبنان وغزة، وما أسفر عنه حراك ٧ أكتوبر وتداعياته من نزوح فلسطينيين ثم لبنانيين خارج ديارهم وأراضيهم ، فإن الواقع الحالي في الشرق الأوسط ( ٧ اكتوبر ، التهجير والنزوح ، اغتيالات سياسية في صفوف محور المقاومة، العملية البرية في الجنوب اللبناني ) سوف يفرز عدة تحولات في البنية السياسية والأمنية للمنطقة ، ومن المتصور أن بعض الأطراف المعنية بواقع ومستقبل الشرق الأوسط -ومناطق التماس معه- تعكف – منذ فترة ليست بقصيرة – علي ترتيب أوراقها الإستراتيجية ، وفقاً لتحالفات ومعادلات توازن قوي جديدة ( صمود أو إختفاء محور المقاومة ) ، وتحولات داخلية محتملة ( مستقبل نظام المحاصصة في لبنان ، إنفصال شمال سوريا من عدمه ) وإرتباط تلك التحولات مع الحراك الجيوإقتصادي المنتظر ( ممرات ومسارات التجارة ، سلاسل الإمداد والتوريد ، أمن الطاقة ) .