كتب السفير هادي التونسي
البانيا، تلك الدولة التي عاشت لقرون و عقود تحت حكم الإغريق والرومان و البيزنطيين و البلغار و الصرب و العثمانيين الذين حصلت علي استقلالها منهم ١٩١٢ تاركين مجتمعا إقطاعيا متخلفا، و في عام ١٩٢٨ اصبحت البانيا ملكية تسعي للتحديث علي النمط الغربي إلا انها وقعت عام ١٩٣٩ تحت الحكم الايطالي الفاشي ثم الالماني النازي، و قال زعيمها فيما بعد أنور خوجة ان نتيجة الحرب كانت موت مليون الباني و سجن عشرة الاف و استعباد خمسة و ثلاثين الفا في معسكرات الموت النازية، و انه تم نهب محطات الطاقة و المواني ، وتدمرت الثروة الزراعية و الحيوانية و الاقتصاد الوطني بالكامل.في وسط تلك المعاناة كان التاريخ يعد لألبانيا معاناة مختلفة ربطت التطور في مجال التعليم و الصحة و الثقافة و الفنون و التنمية الزراعية و الصناعية و العسكرية بنظام يعد الأكثر عزلة و قمعا و دموية في أوروبا القرن العشرين، نظام شيوعي كان مؤسسه انور خوجة امتد من ١٩٤٤ الي ١٩٩١ بالتحول الديمقراطي بعد سقوط حائط برلين و حتي بعد وفاته عامّ ١٩٨٥
انور خوجه ولد مسلما منتميا للطائفة الصوفية البكتاشية وسافر الي أوروبا والولايات المتحدة و غيرها مع والده التاجر و درس في فرنسا و الاتحاد السوفيتي التاريخ والفلسفة و في موسكو اللغات، التي اصبح يجيد ستا منها. في فرنسا تأثر بمؤتمرات حزبها الشيوعي، و اسس الحزب الشيوعي الالباني عام ١٩٤١ بعد طرده من العمل بالقنصلية الألبانية في بروكسل لافكاره الماركسية و العمل مدرسا ثم تاجرا.
وبالتعاون مع المقاومة اليوغسلافية امكن بدعم سوفيتي و قدراته و وعوده الخطابية و بتوحيد الفلاحين و الحركات المعارضة تأسيس جبهة و جيش تحرير وطني استطاع دخول العاصمة تيرانا، و اعلن جمهورية البانيا الديمقراطية و الغاء النظام الملكي و طرد الملكيين و ملاحقة الفاشيين، و بعد حصول حزبه علي أغلبية ٩٣٪ في الانتخابات اعلن قيام جمهورية البانيا الشعبية الاشتراكية.
و رغم ان اتفاقية تأسيس جبهة التحرير تضمنت اقامة البانيا الكبري بضم مناطق متاخمة في اليونان و كوسوفو و اعتراض يوغسلافيا علي نزع كوسوفو من أراضيها إلا انه دعم المقاومة اليوغسلافية حتي تخلصت من الاحتلال الالماني ، بما مهد ،رغم اطماع تيتو لضم البانيا لاحقا بدعوي انها لا تستطيع ان تبقي بمفردها ،لعقد اتفاقية صداقة و تعاون ساعدت في تنمية البانيا، بل و كان هناك توجه لإنشاء اتحاد جمركي لولا خشية من الهيمنة علي الاقتصاد الالباني. تزايد الخلاف بين الدولتين فوصف الجانب اليوغسلافي البانيا بالانحراف عن الماركسية وبالانتهازية لاعتمادها علي الدعم اليوغسلافي ،بينما شكت البانيا انها ترسل المواد البترولية و الزراعية الخام الرخيصة ليوغسلافيا لتحصل منها علي اجهزة و الات و سيارات غالية، و عندما تأزم الوضع بين البلدين لجأ خوجه الي الاتحاد السوفيتي في عهد ستالين الذي قدم المعونة و المنتجات المصنعة الرخيصة و الحماية العسكرية لألبانيا ضد الأسطول السادس الأمريكي في البحر المتوسط في مقابل توقيع اتفاقية معه و قطع العلاقات مع يوغسلافيا و التخلي عن اتفاقية الصداقة المقيدة معها و التي كانت تلزم البانيا بالتشاور معها قبل عقد اتفاقيات دولية.
كان انور خوجه معجبا بستالين، فاصدر قوانين التأميم و الإصلاح الزراعي و نزع الملكية عن الاقطاعيين و منحها للفلاحين، و انخفضت الامية من ٩٠٪ قبل الحرب العالمية الثانية الي ٣٠٪ عام ١٩٥٠ و انشأ جامعة تيرانا و نظاما للضمان الصحي و الاجتماعي، فانخفضت وفيات المواليد والأمراض و زاد متوسط العمر للفرد من ٣٨ عاما الي ٦٩ عاما، كما اهتم بحقوق المرأة و منع الزواج المبكر و للمساواة بالرجل و بزيادة الأراضي الزراعية و استصلاحها وبتوصيل الكهرباء لكافة الأنحاء، فاصبحت البانيا مكتفية بالطاقة الكهربائية، و طور الجيش حتي امتلك اسلحة دمار شامل و انشأ المخابئ تحت الارض للوقاية من الغرب اعداء تجربته الماركسية، كما الغي الضرائب، و تمتع السكان بخدمات صحية و تعليمية جيدة، و رغم الشكوي من حدوث مجاعة في بعض سنوات حكمه و تقنين نصيب الفرد من منتجات غذائية و الفقر إلا ان مستوي دخل الفرد ارتفع تدريجيا،كما اهتم بفرض و تعليم اللغة الألبانية بعدما كان السكان يتكلمون بلغات متعددة، و في اوائل الخمسينات استطاع القضاء علي حركة تمرد أنشأتها الولايات المتحدة و بريطانيا من الألبان في الخارج، فزاد ذلك من قبضته الامنية لحماية دولته من اعداء الداخل و الخارج.
بوفاة ستالين و تولي خروتشوف زعامة الاتحاد السوفيتي، واهتمامه بالتعايش السلمي مع الدول الرأسمالية خلافا لخط لينين اتهم خوجة الاتحاد السوفيتي بالتحريفية ، فقطع الأخير معونته، و استدعي فنييه من البانيا، و جعل دول حلف وارسو تقاطعها و تقطع عنها مساعداتها، و سحب قاعدته العسكرية منها، فاتهم خوجة السوفيت بالتآمر لانهيار البانيا،و لجأ الي التعاون مع الصين في عهد ماوتسي تونج و زادت مساعدتها و اصبحت البانيا مكتفية ذاتيا في كل المجالات تقريبا عدا التكنولوجيا، ووقعت البلدان اتفاقية تعاون، و ساعدت البانيا الصين في استعادة مقعدها في الامم المتحدة، لكن الوضع تغير في عهد ماو باختيار الصين للتعايش السلمي مع الغرب، بعدما كانت تنتقد التحريفية السوفيتية اليوغسلافية، و قلصت الصين مساعدتها، عندما انتقدها خوجه شاعرا بخيانتها ،ثم قطعتها بعد عهد ماو، و التزمت البانيا بالانسحاب من حلف وارسو ناقدة غزو الاتحاد السوفيتي لتشيكوسلوفاكيا و حياد الصين في الحرب الباردة بين حلف وارسو و الغرب
يري محللون رغم التقدم التنموي في عهد خوجه انه كان يتلقي المعونات دون ردها و يتقلب بين الدول التي تعادي بعضها بعضا، و قد يراه بعض ممن كانوا بحزبه من المستفيدين و ممن الفقراء الذين كفل لهم الحد الادني من حياة كريمة اقتصاديا و خدميا و تعليميا انه حقق لهم الامان و الاستقرار المعيشي خلافا لحالهم في مرحلة الانتقال الديمقراطي بظهور الفوارق بين الطبقات و الفساد، لكن الثمن كان باهظا.
داخليا اتبع خوجه سياسة قمعية دموية هي الأقسي في أوروبا الحديثة، معتبرا ان المخالفين في الفكر اعداء يجب التخلص منهم و من أجيالهم اللاحقة، فأقام جهاز سيجوريمي للتجسس يقال جعل ربع السكان يتجسسون علي الآخرين ، تجسس علي الاتصالات الهاتفية و البريدية، و النشر و وضع الميكروفونات في الحوائط والأغراض اليومية، اقام منشآت التعذيب و الاستجواب، و جهاز مخابرات بالاستعانة بالروس و الصينيين، وصل الأمر به الي معاقبة من لا يضع تمثاله في منزله و معاقبة احفاده حتي ثالث جيل اما بمنع التعليم او بالقتل و السجن او العمل دون حماية في المناجم و مد الطرق و السكك الحديدية، و كانوا يأخذون أطفالهم الي الملاجئ، و وصل عدد الضحايا الي مئات الالاف، و اصبح الناس يخشون جيرانهم و أقاربهم، بل و ربما الحديث المسجل بميكروفونات الحيطان و الهواتف و البريد.و كان المواطن حبيسا في بلده لا يستطيع السفر خارجها حتي انه في الايام الاولي من انهيار الحكم الشيوعي هرب مئات الالاف من السكان المليونين الي اليونان و إيطاليا
انتهت حياة انور خوجه برجفان القلب ، و خلفه رامز عليا لست سنوات حتي انتهاء الشيوعية في البانيا، و بدأت البانيا طريقها للتحول الديمقراطي و اقتصاد السوق بدعم غربي و تطورت الصناعات الزراعية و التحويلية و المعدنية القائمة بل اصبحت السياحة هي مورد الدخل الاول قبل الصناعة و الزراعة.
وان كان البعض يعتقد ان السياسة الخارجية هي عالم المصالح ،فيعتبر ان خوجه كان ماهرا في التلاعب بالدول المتعارضة لتأمين التنمية الشاملة في بلده، و ربما التمس له اخرون العذر في الحكم الشمولي الذي كان سمة عصر الفاشية و النازية و الشيوعية، و تذكروا له انه حرر البانيا من الاحتلال النازي،او انه كان عقائديا مخلصا للماركسية حتي لو كلفه ذلك خسارة الدول الداعمة، او ان تاريخ البانيا كان احتلالا دائما منذ نشأتها، و بالتالي عليه ان يؤمن نجاح تجربة استقلالها بشتي الطرق خاصة في وجود تآمر غربي عليها، لكن حتي لو تفهم بعضنا ذلك او جزء منه، فهل كان الثمن القمعي الدموي مناسبا، و هل كان ذلك البديل الاوحد لتحقيق التنمية و الاستقلال ام ان التمسك بالسلطة باي ثمن كان ايضا دافعا أساسيا ! السؤال متروك للقارئ،
لكن بعد عقود المعاناة بثلاثين عاما نجد البانيا شعبا ودودا متضامنا ينظر الي المستقبل بامل ، بل و اصبحت البانيا مرشحة للانضمام للاتحاد الأوروبي خلال سنوات عندما تفي بمعايير الانضمام، و مازالت البانيا تتمتع بثمار التعليم الجيد و الخدمات و تنمية نقلتها من مجتمع إقطاعي و تقاليد بالية الي دولة عصرية نامية