يُعد 24 أغسطس بمثابة أهم الأعياد الوطنية في التاريخ الحديث لأوكرانيا حيث تحتفل البلاد بعيد استقلالها الثالث والثلاثين. منذ انهيار الاتحاد السوفيتي في عام 1991، لم تقتصر أوكرانيا على تأسيس نفسها كدولة ذات سيادة ثابتة فحسب، بل قامت أيضًا ببناء علاقات دبلوماسية قوية عبر العالم، بما في ذلك مع مصر كشريك تجاري رئيسي في أفريقيا والشرق الأوسط تجمع بينهما علاقات تاريخية.
رحلة عبر استقلال أوكرانيا
على مدى العقود الثلاثة الماضية، قامت أوكرانيا ببناء هيكل دولة قوي، حيث طورت نظامها المصرفي، وطرحت عملتها الوطنية، وبنت نظامًا تعليميًا تنافسيًا. وقد تم تدريجياً اعتماد اللغة الأوكرانية كلغة رسمية في جميع مجالات الحياة، بما في ذلك التعليم والإعلام والنشر والاتصال الداخلي والدولي داخل البلاد.
وعلى الساحة الدولية، كانت أوكرانيا عضوًا نشطًا في مختلف المنظمات العالمية مثل منظمة الأمن والتعاون في أوروبا، صندوق النقد الدولي، البنك الدولي، منظمة التجارة العالمية، ومجلس أوروبا. ومن الجدير بالذكر أن أوكرانيا هي أكبر دولة في أوروبا تقع بالكامل في القارة، مما يساهم بشكل كبير في أهميتها الجيوسياسية.
إضافة إلى ذلك، تتمتع أوكرانيا فعليًا بنظام إعفاء من التأشيرات مع ما يقرب من 150 دولة، بما في ذلك الأعضاء في الاتحاد الأوروبي. في عام 2016، انضمت أوكرانيا إلى منطقة التجارة الحرة للاتحاد الأوروبي، وأصبحت عضوًا مشاركًا في عام 2017، وعضوًا مرشحًا في الاتحاد الأوروبي في عام 2022.
لقد عززت إنجازات أوكرانيا في مجالات الثقافة والعلوم والرياضة من مكانتها على الساحة العالمية. في عام 1997، أرسلت أوكرانيا أول رائد فضاء لها إلى الفضاء، وفازت ثلاث مرات بمسابقة الأغنية الأوروبية “يوروفيجن”، واستضافت بطولة أمم أوروبا لكرة القدم (يورو 2012) بالشراكة مع بولندا، وبرز رياضيون عالميون مثل الملاكمين فولوديمير وفيتالي كليتشكو، وأوليكساندر أوسيك، وكذلك لاعب كرة القدم أندريه شيفتشينكو، الذي فاز بجائزة الكرة الذهبية ودوري أبطال أوروبا.
تعيش السينما الأوكرانية فترة ازدهار، حيث تفوز الأفلام المحلية بجوائز في المهرجانات الدولية المرموقة. كما أن البلاد في طليعة الابتكار الرقمي، مع تقدم كبير في رقمنة الخدمات العامة والخدمات المصرفية وإدارة الوثائق الإلكترونية. ويشتهر قطاع تكنولوجيا المعلومات الأوكراني بتطويراته المبتكرة والشركات الناشئة ذات المستوى العالمي، حيث يساهم المتخصصون الأوكرانيون في الشركات الرائدة في تكنولوجيا المعلومات على مستوى العالم.
عند تأمل الحاضر، من المهم أن نتذكر أنه منذ 33 عامًا، استعادت أوكرانيا استقلالها أكثر من مفهوم أنها اكتسبته، وذلك نتيجة للإرث المستمر للدولة الذي يمتد لقرون عديدة إلى الوراء.
تشكَّلت أول دولة أوكرانية، “روس كييف”، نتيجة للتطور الاجتماعي والاقتصادي والسياسي للقبائل السلافية المتحدة، حيث أصبحت مدينة كييف العريقة مركزها الرئيسي في القرن التاسع. لعبت دولة روس كييف دورًا مهمًا في السياسة الأوروبية، حيث أقامت روابط مع الدول الكبرى في ذلك الوقت. وساهم تبني المسيحية في عام 988 من قبل الأمير فولوديمير، وانتشار الأبجدية السيريلية، وتقنين القانون العرفي في تشكيل الثقافة القانونية والسياسية الأوكرانية.
بدأ تراجع كييف كمركز سياسي في القرن الثاني عشر بسبب الصراعات الداخلية والغزو المغولي.
ومع ذلك، استمرت الدولة الأوكرانية في الوجود من خلال إمارة غاليسيا-فولين، التي حافظت على العلاقات الأوروبية وعزَّزتها.
في القرن الرابع عشر، أصبحت الأراضي الأوكرانية جزءً من مملكة بولندا ودوقية ليتوانيا الكبرى، حيث تبنت الأخيرة العديد من تقاليد دولة روس كييف، بما في ذلك جعل لغتها اللغة الرسمية.
شهد القرن السادس عشر صعود القوزاق، الذين أنشأوا منظمة عسكرية سياسية تستند إلى مبادئ الحرية الشخصية والسلطة المنتخبة. تطورت هذه الأسس لتصبح دولة الهتمانات، وهي دولة أوكرانية تأسست في منتصف القرن السابع عشر، حيث تم صياغة أول دستور أوروبي بواسطة بيليب أورليك في عام 1710.
في أواخر القرن الثامن عشر، قضت الإمبريالية الروسية على المؤسسات الوطنية الأوكرانية. ومع ذلك، شهد القرن التاسع عشر نهضة في الوعي الوطني الأوكراني بفضل الجهود الجبارة للأديب والشاعر والفنان تاراس شيفتشينكو، مما مهد الطريق لمزيد من بناء الدولة.
في ظل انهيار الإمبراطوريتين الروسية والنمساوية المجرية وتداعيات الحرب العالمية الأولى أقامت أوكرانيا سلسلة من صيغ الدولة الوطنية المستقلة خلال 1917-1922 بينها جمهورية أوكرانيا الشعبية وجمهورية أوكرانيا الغربية الشعبية ودولة الهتمان بافلو سكوروبادسكي التي سقطت تحت ضغط الهجوم البلشفي وتم إدخال الأراضي الأوكرانية جزئيا وثم كليا في الاتحاد السوفياتي بصفة إحدى جمهورياته والتي أصبحت إحدى الدول المؤسسة لمنظمة الأمم المتحدة في 1945 نظرا للخسائر البشرية الفادحة التي تكبدها الشعب الأوكراني في الحرب ضد النازية. بينما بدأت عملية تشكيل الدولة الأوكرانية في ترانسكارباثيا، مما أدى إلى إعلان استقلال كارباثيا الأوكرانية في 1939 التي وكانت من الأولى في أوروبا قبل الحرب العالمية الثانية التي قاومت الضم بالأسلحة دفاعًا عن الحرية.
على الرغم من المصاعب التي واجهتها تحت الحكم السوفياتي، بما في ذلك المجاعة الجماعية الكبرى (هولودومور) لعامي 1932-1933 والقمع ضد النخبة الوطنية والثقافية والدينية التي تم نفيها وقتلها برمي الرصاص وعملية الترحيل القسري الشامل لشعب تتار القرم في 1944، استمر تطلع الأوكرانيين لبناء الدولة. في أواخر الثمانينيات، أعادت الحركة الوطنية ظهورها، دافعة نحو الاستقلال. بلغ هذا ذروته في 24 أغسطس 1991، حينما أعلنت أوكرانيا استقلالها رسميًا، مما أدى إلى بدء عهدها الحديث كدولة.
وفي نفس العام، اعترفت جمهورية مصر العربية بأوكرانيا كدولة مستقلة بموجب بيان الحكومة المصرية. تمت إقامة العلاقات الدبلوماسية بين البلدين في 25 يناير 1992.
العلاقات التاريخية مع مصر
تعود أقدم التفاعلات بين أوكرانيا ومصر إلى العصور الوسطى، وخاصة فترة المحاربين المماليك المحليين في القرنين السادس عشر والسابع عشر، حيث كان العديد منهم من أصول أوكرانية.
في القرنين الثامن عشر والتاسع عشر، كانت الروابط بين الشعبين ممثلة بشكل رئيسي من خلال الرحالة والكتاب. ومن الجدير بالذكر أن فاسيل غريغوروفيتش-بارسكي، في العشرينيات من القرن الثامن عشر، سافر عبر مصر وقضى ثمانية أشهر في بلاط بطريرك الإسكندرية. قام بترجمة الأدب المصري القديم إلى الأوكرانية، والذي نُشر لاحقًا بعنوان “أغاني مصر القديمة”.
في أوائل القرن العشرين، زارت الشاعرة الأوكرانية الشهيرة ليسيا أوكراينكا مصر، حيث كتبت ديوانها الشعري “الربيع في مصر” أثناء وجودها في الإسكندرية وحلوان.
حدثت أول موجة من المستوطنات الأوكرانية في مصر في عام 1919، بعد الحرب الأهلية في الإمبراطورية الروسية. كانت غالبية هؤلاء المهاجرين لاجئين، بما في ذلك من الحرس الأبيض من الأصل الأوكراني، وأفراد عسكريين من جمهورية أوكرانيا الشعبية، ومثقفين حضريين مع عائلاتهم. جاءوا في البداية إلى معسكر خيام في التل الكبير، بالقرب من محطة السكة الحديد بين القاهرة وقناة السويس. انتقلت هذه الجماعة لاحقًا إلى سيدي بشر، بجوار الإسكندرية، حيث أنشأوا مكتبتهم، ومركزًا تعليميًا، وحتى نشروا مجلة أدبية بعنوان “على الأنقاض”. كما حافظوا على مراسلات مع وزارة الخارجية لجمهورية أوكرانيا الشعبية من خلال البعثة الدبلوماسية الأوكرانية في إسطنبول.
وفي القاهرة، يقع (مثوى) مكان الراحة الأخير لأندريه بوكروفسكي، وهو أميرال في جمهورية أوكرانيا الشعبية، والذي خدم كقائد عام للموانئ في البحر الأسود وبحر آزوف ووزير الشؤون البحرية.
في الستينيات والسبعينيات، شارك بناة ومهندسون أوكرانيون في مشاريع الاتحاد السوفيتي الكبيرة، مثل بناء السد العالي في أسوان ومصنع حلوان للحديد والصلب. ساهم المتخصصون العسكريون والمترجمون أيضًا في ذلك الوقت، وبدأ الطلاب المصريون في الدراسة في الجامعات الأوكرانية.
العلاقات الثنائية في العصر الحديث
تم تبادل افتتاح السفارتين بين أوكرانيا ومصر في عام 1993، مما شكل بداية لوجود دبلوماسي رسمي في كلا البلدين.
على مدى ثلاثة عقود ماضية، توسع التعاون بين البلدين بشكل كبير. على سبيل المثال، تم إطلاق القمر الصناعي المصري “EgyptSat-1” في مدار الأرض في 2007 من قاعدة بايكونور الفضائية باستخدام صاروخ دنيبرو الأوكراني، الذي تم بناؤه بموجب مشروع بين وكالة الفضاء الوطنية الأوكرانية والهيئة القومية للاستشعار عن بعد وعلوم الفضاء في مصر.
في عام 2021، بلغ إجمالي التجارة بين أوكرانيا ومصر 2.446 مليار دولار، وساهمت أوكرانيا في تعزيز الأمن الغذائي المصري عن طريق إمدادات القمح والذرة والحبوب الأخرى.
تواصل شركة النفط والغاز الأوكرانية “نفطوغاز أوكرانيا” تنفيذ أكبر مشروع استثماري لها في الخارج في مصر في حقل العلم الشاويش في الصحراء الغربية.
تشارك أوكرانيا بفعالية في الأحداث الثقافية الدولية التي تنظمها مصر، مثل معارض الكتب والمهرجانات السينمائية والمنتديات الشبابية. في عام 2021، كانت أوكرانيا المورد الأول للسياح إلى المنتجعات المصرية، حيث بلغ عدد الزوار 1.6 مليون سائح. يُعد التعاون التعليمي جانبًا مهمًا آخر من العلاقات الأوكرانية-المصرية. قبل الغزو الروسي الشامل، كان هناك أكثر من 4 آلاف طالب مصري يدرسون في أوكرانيا. وفي جامعة القاهرة، يواصل الطلاب الأوكرانيون دراسة اللغة العربية وتحسين مؤهلات معلمي اللغة العربية سنويًا.
على الرغم من التأثير المدمر للعدوان الروسي، فإن التعاون التجاري والاقتصادي الأوكراني-المصري يظهر علامات على التعافي، حيث يقترب من مستويات ما قبل الحرب ويستمر في النمو. بلغ حجم التجارة بين البلدين ما يقرب من مليار دولار أمريكي، مما جعل مصر الآن واحدة من أكبر 10 دول تستورد من أوكرانيا. بالإضافة إلى ذلك، سلمت أوكرانيا مؤخرًا 15 ترامًا إلى إدارة نقل الركاب في الإسكندرية.
وتقدر أوكرانيا الموقف المنصف قانونيا وأخلاقيا الذي اتخذته مصر فيما يتعلق بدعم سلامة أراضي أوكرانيا وسيادتها في ظل الحرب الواسعة النطاق التي شنتها روسيا في 2022 وذلك عن طريق التصويت على القرارات الأممية بشأن العدوان ضد أوكرانيا، والعواقب الإنسانية للعدوان ضد أوكرانيا، والسلامة الإقليمية لأوكرانيا: الدفاع عن مبادئ ميثاق الأمم المتحدة، ومبادئ ميثاق الأمم المتحدة التي يقوم عليها السلام الشامل والعادل والمستدام في أوكرانيا، والدور المهم الذي تلعبه القاهرة في إطار مجموعة الاتصال لجامعة الدول العربية والمبادرة الإفريقية، متطلعة إلى مواصلة انخراط الدبلوماسية المصرية المحنكة في الجهود الدولية الرامية إلى إحلال السلام الشامل العادل المنشود في أوكرانيا.