توماس الماني قدم منذ سنتين الي قرية مجرية أقطنها ، بعد أن استقدمه أحد مواطنيه للقيام بالبناء و الاعمال اليدوية الحرفية في منزله، رغم انه جامعي و مدرس ببلده للتدريب العام و الفني و في الاربعينات من العمر.
أعجبته الاقامة بالقرية و قام باعمال مشابهة لعدد من سكانها، كنت منهم، و كذلك لتدريس لغته للاجئين في النمسا. لاحظت منه ودا و فضولا للتعارف الاجتماعي وللحديث حول مصر التي سبق ان اصطاف اسبوعا بها و تحديدا في الغردقة، بل واخذ يسائلني عن امكانية العمل بالمدارس والالمانية واحد المجتمعات الزراعية التي اسسها مصري بعد عودته من النمسا.
ذات يوم راودتني اسئلة عن دافع التنقل و القيام باعمال متعددة في عدة بلدان، و سبب سعيه للعمل بمصر، فأطلنا الحديث.
كان في مقتبل عمره قام بسياحة الي عدة دول اوروبية، لكنه فضلا عن مصر شعر انه يريد ان ينهل من سياحة الشرق، فزار ماليزيا و سنغافورة، و صادق صينيين ايضا، و لاحظ دأبهم و شغفهم للعمل و التعلم و استقامتهم و نزوعهم الي المرح بشكل عام.
فبعد حديث سياسيا عن بلدينا و المنطقة العربية و العالم قررت ان افتش عن سبب هذا الميل نحو الشرق و اختياره هذه الحياة المتقلبة و هو في منتصف العمر. وجدت ان جده لوالدته كان لديه نفس هذه النزعة الانسانية للبحث عن بديل جديد اثرت علي والدته، التي كان صديقي وحيدها، فانتقلت اليه بالتالي، خاصة وان والده صارم و قليل التعبير عن مشاعره.
فاستقل عن اسرته بعد الدراسة الثانوية، و عمل لينفق علي تعليمه الجامعي قبل عمله بالتدريس العام و الفني. و بدا لي ان نزعته تجاه الشرق امتداد للحنان و الرعاية التي اولته إياها والدته بعيدا عن الصرامة الالمانية التقليدية، و انه يبحث في الشرق عن نفسه لينهل من المشاعر التي افتقدها باستقلاله عن اسرته.
توماس نتاج نشأته، لكن عالمنا الذي يزداد مادية و تعصباّ، و قسوة و استقطابا، في حاجة لمن يبنون الجسور؛ من ينفتحون علي الآخر المختلف، فيستفيدون و يفيدون، و يبنون سلاما نفتقده، و يسترجعون انسانية تتواري، و يثرون انفسهم و مخالطيهم. عالمنا يحتاج الي المزيد من التواضع و التراحم، لمحبة دون تعالي، لعطاء دون من، لتعلم متبادل، و هذا ما يفعله حتي علي حساب استقراره الوظيفي و المعيشي. لا يهم ان كان عمله تعليميا او يدويا، بل المهم ان يعمل ما يريد، و يكون نفسه، و ان تكون رحلة الحياة اكتشافا للذات و تعلما مستمرا ، و سلاما مع النفس و الآخرين. و توماس هو ابن لهذا العالم.
د. هادي التونسي
طبيب و سفير سابق