كتب : السفير هادي التونسي
هل يكفي التعليم المتميز و التدريب العملي للنجاح ، أم ان الحظ هو السبيل الأهم ؟ هل يجدر بالوالد ان يعبر عن حبه بالشدة و الصرامة ام عليه ان يغدق علي ابنائه ليعوضهم عن انشغاله؟ هل يمكن الجمع بين متعة العيش ومقتضيات عمل كبار رجال الاعمال ؟ كيف يمكن لدراسة التاريخ ان تفيد رواد المال و الأعمال؟ هل مازال للرأسمالية في العهد الملكي دور في مستقبل التنمية الاقتصادية و الاجتماعية و الثقافية ؟
نبغ في تعليم مدرسي علي مستوي دولي راقي علي أرض مصر، استكمله جامعيا في برلين ليتخرج مهندسا ميكانيكيا، و كانت الاجازات الدراسية حافلة بالتدريب في شركة الوالد علي آليات العمل الفعلي، لكن ذلك لم يمنعه من التمتع بحياة شاطئ الصفوة في الاسكندرية، بل حتي عندما كان الوالد يرسل له بالكاد ما يكفي معيشته و دراسته في المانيا ليعتاد الاستقلالية و الجدية، و ان يبني ثروته بجهده، فلم يتأفف ان يمارس الاعمال البسيطة في المطاعم و الفنادق، ثم الترجمة من اجل المزيد من الحرية المالية ليمكنه التمتع بحياة الشباب الاوروبي. كما و استطاع ان يجمع بين متع الحياة و التفوق في مجال عمله،حتي عندما تعددت شركاته و مشروعاته محليا و اقليميا و دوليا و اصبح من اغني الاثرياء بان حدد للعمل فترة لا تتجاوز في المتوسط ست ساعات يوميا.
و رغم ان الذكاء و التعليم و التدريب و الكفاح كانوا من اسباب التميز الا ان دروس الطفولة و الشباب حفرت آثارها في الوجدان، إذ تفتحت عيناه علي حياة أسرية مترابطة؛ والد درس الزراعة جامعيا ليدير أراضي الأسرة الثرية، حتي خضعت لقوانين تحديد الملكية الزراعية في خمسينات القرن الماضي، لكنه لم ييأس، بل عمل في مجال المقاولات الواعد مع شريك ، حتي توسعت شركته لتضم خمسين الف موظف، لكنها عام ١٩٦١ خضعت للتأميم، بل و تم تحديد اقامته، فشاهد والده، و هو يمتثل للأمر الواقع بثبات، و يقبل بمعيشة أقل ثراء، و حتي و هو يفقد شركته التي ثابر في تنميتها بعد نزع ملكية الأطيان، حرص علي توفير افضل تعليم مدرسي و جامعي لاولاده الثلاثة في مصر و الخارج اضافة للتدريب العملي بالشركة.
الوالد جمع بين الصرامة واحترام حرية الابناء و معاملتهم بما يكفل الترابط الأسري و المصارحة و الثقة المتبادلة، و بما يشجعهم ان يبنوا ثرواتهم بجهدهم المستقل، ثم شاهد والده بعد ان سمحوا له ضمن رأسماليين سابقين بالسفر عقب نكسة ١٩٦٧، فاختار العمل بليبيا المجاورة في مجال المقاولات، حتي لا يغادر مصر نهائيا لبلاد المهجر النائية، و حتي يتربي اولاده في مصر التي احبوها، و ليمكنه ان يراهم في اجازتين شهريا الي ان عاد الي مصر مع انفتاح السبعينات ،حينما تنبأ ان ليبيا القذافي ستسلك طريق الاشتراكية، فانقذ شركته من التأميم، فهل تعلم الابن من مسيرة الوالد ان المبادرات الجيدة و الكفاح ليسوا ضمانا للنجاح اذا ما ساء الحظ؟ و ان القبول بمحورية عامل الحظ لا تستدعي بالضرورة العمل المضني و التضحية بمباهج الحياة؟ هل كان ذلك القبول مشجعا علي الجرأة في المبادرة طالما ان الحسابات الواقعية لا تضمن النجاح؟ و هل كان التفاؤل و عقلية الرابح وراء الطموح و النجاح طالما ان الخسارة لا تخيف، بل يمكن تجاوزها مثلما فعل الوالد غير مرة؟ يقال تفاءلوا بالخير تجدوه، و يقال ان الكون صدي لما نرسله، فالايمان بالحظ يتصل بالايمان بالقدر، و احترام طبائع الحياة و مسايرتها أجدر من مكافحتها و الشكوي منها. فالانفس الناضجة لا تحاول بالصدام ان تغير طبيعة الحياة، بل تتغير و تتطور وفق الظروف.
شباب ثلاثة عائدون تخرجوا في أفضل جامعات الغرب، و عادوا في سبعينات الانفتاح، فكانت مكافأة الوالد ان اتاح لهم فتح شركاتهم في مجال الاتصالات و المقاولات و الفنادق و التنمية باسم الشركة الأم ذائعة الصيت، فاختار الإبن الاوسط بذكاء مجالا خارج المنافسة، يمثل مكوناّ من حياة الشاطئ و الصحبة؛حلم الشباب الذي طالما افتقده في غمرة كفاح الدراسة و العمل،، فكان ان بدأ تصنيع قوارب الفايبرجلاس الرياضية السياحية، و عندما شجع نجاحه آخرين لإقتحام المجال، نقل نشاطه الي مكون أشمل في استعادة الحلم، لكن هذه المرة كان المجال اكثر صعوبة و مغامرة و إبداعا؛ فبعد سنوات الدراسة في الخارج و صناعة القوارب كان التدهور النوعي أصاب إسلوب الحياة الذي إعتاده في الأسكندرية و العجمي و الغردقة ، فكان ان حصل في التسعينات علي أرض ساحلية صحراوية علي البحر الأحمر بالقرب من الغردقة مجانا، تشجيعا من الدولة لإحياء السياحة بالمنطقة بإقامة مجتمع صفوة متجانس، يجتذب المزيد.
التحدي كان كبيراّ؛ شق طرق و مد مرافق و تطوير عقاري عصري بتراث معماري مصري أصيل مبدع،بما يتضمنه من خدمات صيانة و ترفيه ، تشجع الفنادق العالمية علي الاستثمار؛ تحدي تطلب تضحيات مالية للصرف علي الخدمات، حتي توسع المشروع الرائد الجذاب بما يغطي نفقات الصيانة مع زيادة السكان و السياح.
وفاقت النتيجة توقعات الحلم، بل اصبح المشروع الطفرة في نوعية الحياة ومراعاة البيئة و الإحياء السياحي مقدمة لمشروعات تطوير عقاري اقليميا ودوليا، و نموذجا شجعه و آخرين علي إقامة تجمعات عمرانية عصرية في مختلف أنحاء مصر.
واستطاع بذلك ان يوفق بين مقتضيات العمل و الراحة و المتعة و النجاح بأن اتبع شغفه المبدع لتحقيق الحلم، و هكذا تعددت شركات أوراسكوم للفنادق و التنمية و استثماراته محليا و دوليا حتي وصلت الامارات و المغرب و سويسرا بل و السعودية،و دوما بأصالة و إبداع بيئي و معماري، و حتي لقبوا الملياردير سميح ساويرس بأمبراطور السياحة.
بل و لفت نجاح الجونة سياحيا و بيئيا أنظار سويسرا فطلبت منه وضع اشتراطات تنمية قرية اندرمات بعد نقل معسكر الجيش منها، و كانت الاشتراطات دقيقة و نزيهة حتي ابتعد عنها المطورون المحليون، لكنه قبل تطويرها بنفس الشروط عندما عرضت عليه سويسرا في النهاية تنفيذ المشروع.
لكن من أين تأتي شجاعة الريادة و جرأة المغامرة؟، و هل يكفي التعليم و التربية و ظروف النشأة و الذكاء و الخيال و الطموح و الحظ لتكوين الفكر الاستراتيچي الذي يري المستقبل بيقين فيبنيه بسنوات من العمل و المثابرة ؟ التربية المنفتحة و الاطلاع علي تجارب الدول و الشغف المبدع تبدو كجانب آخر من الحقيقة، يكملها الولع بدراسة التاريخ و الافادة من دروسه فيما يتعلق بمصائر الأمم و سير القادة و التي تستدعي السكينة في مواجهة تقلبات الزمن، و تدعمها الثقة بالنفس و الاعتداد بها و الشعور بالاستحقاق الجاذب للوفرة و التميز و السعادة في تناغم مريح.
كما قال اينشتاين ان تعيش المستقبل و كأنه حاضر ليس أمرا فلسفيا بل فيزيائيا، و بالتالي أظن ان اليقين الشغوف بالحلم كان القوة الدافعة لتحقيقه ، و ان الحظ كان التفاؤل بالخير الذي أوجده، و اذا كان حلم الوفرة و الثراء هو ما يشغل الشباب اليوم، فإن مسيرة رجل الأعمال سميح ساويرس تدعو للتأمل، و قد لا تكتمل عناصرها لدي كثيرين، لكن بعضها ربما كان كافيا لانجاز يوازن بين العمل و الراحة، و بين الأصالة و الإبداع، و بين الحلم و الواقع ، بين ان تكون مصرياّ و عالمياّ، و بين متطلبات الحياة و ان تكون نفسك، فتحتفل بالحياة و انت تبنيها لنفسك و بلدك.
كتب : السفير هادي التونسي