قبل نحو ستين عاما كتب الدكتور حسين مؤنس قصته ” دولة عموم الزير” تعبيرا عن كيف نتسير الأمور كثيرا فى دنيانا، وكيف يعبث المنافقون بأموال الشعب التى إئتمنهم عليها بادعاءات باطله ظاهرها الحرص على مصالح الناس وباطنها الفساد.
تقول القصة بصياغتى – لمن لا يعرفها- :
راح أحد الولاة يتفقد يوما أحوال رعيته، وبينما هو يسير بين بعض حاشيته وصل إلى شاطىء النهر، وهناك فوجىء بأن الناس بنزلون إلى النهر ليشربوا رغم ما فى ذلك من مشقه، فالتفت إلى وزيره الأكبر”زعرب” وسأله لم لم يهىء للناس وسيلة تجنبهم عناء النزول إلى النهر كلما احتاجوا لشرب الماء؟
فاسرع الوزير يقول: معك كل الحق ياسيدنا، فأنت ترى مالا نرى، وأنت دوما صاحب الرأى السديد وأقول الحق لولاك ما طار طير فوق هذه البلاد ولا نبح كلب أو صاح ديك فكلهم يعيشون ببركة سيدنا. سنشرع فورا فى بناء صهريج نرفع إليه الماء وسنقوم باستيراد أحسن طلمبات لرفع الماء إلى الصهريج كى نجنب الرعية عناء النزول إلى النهر للشرب والإغتسال.
فقاطعه الوالى: دعك من هذا الهراء يا زعرب، فهل نترك الناس فى معاناتهم إلى أن تقوم ببناء الصهريج واستيراد الطلمبات ؟ قم فورا بشراء “زير” واجعل خادمى عباس يظل بجانبه كى يملأه كلما فرغ.
ومرة أخرى أسرع الوزير يؤمن على ما قال سيده. وما أن عاد من جولته مع سيده الوالى حتى أصدر أوامره لوزير المال أن يبعث رجاله لشراء الزير وشراء غطاء له و “كوز” أو كوزين ليشرب بهما الناس، كما أصدر قرارا بتعيين ” عباس” أمينا عاما لإدارة الزير..
وبعد بضعة سنوات أراد الوالى أن يتفقد أحوال الرعيه، فصحب وزيره زعرب وبعضا من حاشيته وحراسه لهذه الجوله. وحين إقتربوا من النهر تذكر حكاية الزير، فالتفت إلى “زعرب” يسأله عنه، فأسرع يقول وقد انتشى بما سيخبر به سيده الوالى مشيرا إلى مبنى عظيم على شاطىء النهريدخله ويخرج منه كثير من الناس:
– هذا المبنى يا سيدنا هو إدارة عموم الزير
وقبل أن يفيق الوالى من الدهشة والمفاجأة اللتان أصابتاه وجعلته يترنح، تابع الوزير وقد انتفخت أوداجه فخرا وسعادة بما سيقول:
– لقد لا حظنا إقبال الناس الشديد على الشرب من الزير، ومن ثم فقد إعتبرناه مرفقا شعبيا عاما، ومن ثم كان لابد من عمل إدارة له تقوم على خدمته ورعاية شئونه فهو مال عام للدولة ولابد من الحفاظ عليه، وقد تفضل وزير المال بتخصيص مبلغ من ميزانية الدولة لرعائة شئون الزير، كما تم إنشاء إدارة للفخار تختص بالزير ذاته وبما قد يحدث به من تشققات أو ثقوب أو كسر، وإدارة للصفيح تختص بأمور الكوز واستبداله إذا فقد أو سرق، وإدارة للخشب تختص بما يتعلق بغطاء الزير، وحرصا على سلامة المال العام فقد أنشأنا إدارة عليا للرقابة على تلك الإدارات وعلى ما تقوم بصرفه من الإعتماد المخصص لشئون الزير من مرتبات وحوافز للعاملين بالإدارات المختلفة. وكان من الضرورى إنشاء مبنى لهذه الإدارات هو ماتراه باسيدنا.
وحيث أن هذا المرفق ليس له مثيل فى الدول المجاورة فقد أنشأنا وزارة إعلام لنشر مايخص هذا المرفق الحيوى وما يجرى فيه، كما أنشأنا وزارة للخارجية للتواصل مع الدول الأجنبية التى تهتم بمشروعنا الرائد، وقد قام بالغعل بزيارة بعضا من هذه الدول لحضور المؤتمرات الدولية التى تختص بالمياه حيث نفاخر بفكرتنا ومشروعنا الذى لا مثيل له فى أوروبا وأمريكا ولا فى الكواكب التى قد تكون مأهولة بالسكان، وكل هذا بفضل توجيهاتكم المباركه ورؤيتكم الثاقبة التى لولاها لما..
عندها قاطعه الوالى وقد بدا يفيق مما أصابه:
– هيا بنا لنرى ما يجرى فى هذا المكان.
وجين دخل الوالى ووزيره زعرب وبعضا من الحاشية إلى المبنى الفخيم، وجدوه قد امتلأ بالموظفين والسكرتاريه والسعاه، وقدانشغل بعضأولئك الموظفين بحل الكلمات المتقاطعه فى مجلة ” البعكوكه” جريدتهم الرسميه، بينما انشغلت الفتيات إما بشغل التريكو أو تنطيف الخضارـ وراح السعاة يجولون بينهم يحملون الشاى والقهوه.
وهنا سأل الوالى وزيره زعرب عن المسئول عن هذا المكان فأجابه بكل فخر”
– لقد حرصت على أن يتولى هذه الأمور شخص نثق به وبإخلاصه، وقدرته على صون الأمانة وتحمل المسؤليه، فكلفت بها خادمك “سخماط” إبن أختى فهو المتخصص فى هذا الفرع من العلوم، وهو الآن يحضر مؤتمرا فى باريس يعرض فيه إنجاز سيدنا الغير مسبوق على الدول الأخرى.
– وأين الزير وأين خادمى عباس القائم على خدمته؟
هنا صحب زعرب سيده الوالى إلى الطابق السفلى، وهناك فوجىء كلاهما ب عباس وقد إحدودب طهره وابيض شعره وعلا وجهه الهم والغم، وما أن رأى الوالى حتى انتفض وأقبل عليه صارخا:
– أيرضيك هذا ياسيدنا تركونى هنا دون أن يعطونى مرتب وجعلوا أولادى يشحذون طعامهم من الخلق.
وقبل أن ينطق الوالى بكلمه أسرع “زعرب” يشرح الأمر له:
– لقد اكتشفنا بكل أسف أن خادمك “عباس” لا يحمل شهادات عليا أو سفلى ومن ثم لم نعرف الدرجة الوظيفية التى يتم تعيينه عليها وقد أرسلنا إلى إدارة الفتوى والتشريع نستفتيهم فى هذا الأمر وما زالوا يدرسون الموضوع
إلتفت الوالى إلى عباس وقد تملكه الإشفاق عليه وسأله:
– وكيف حال الزير ومن يملؤه للناس؟
ما أن سمع عباس السؤال حتى راح يلطم خديه ويولول وهو يقول:
– الزير تحطم منذ سنين ياسيدنا.. الزير تحطم منذ سنين ياسيدنا
فما كان من الوالى إلا أن راح يلطم ويولول مثل عباس
———