كنت كلما رأيته ببدلته الأنيقة ونظارته الذهبيه اللامعه، وشعره المصفف بعنايه، وحركاته المتئدة وحديثه الراقى وترفعه، فضلا عن معارفه وأصدقائه الذين تجمعهم إحدى المقاهى الخاصة التى يمثل هو وهم روادها الأساسيون، والذين لا يقلون عنه وقارا وأناقة، ولعل صاحب ذلك المقهى قد أنشأه خصيصا لهم ولنفسه، فقد كان واحدا منهم ومن نفس مستواهم وليس معلما صاحب مقهى. كل هذا كان يجعلنى أتصوره مديرا عاما أو وكيلا لإحدى الوزارات أو المؤسسات الكبرى.. ولو لم أكن أعرف أنه
ليس وزيرا، لخلته وزيرا بالفعل. هكذا كان اولاد الناس فى الزمن الماضى ، يحرص الواحد منهم على الظهور بأحسن صوةه تتفق مع مستواه ومستوى عائلته، دون اعتبار أو تأثر بالدرجة الوظيفية التى قد يشغلها حتى وإن كانت متواضعه. فهو قبلها وبعدها فلان الفلانى أو إبن فلان الفلانى، وهكذا يجب أن يكون مظهره، وتكون صورته امام الناس. وكان الدخل من الوظيقة حتى اواخر السبعينيات يكفى كثيرا من حاجات اصحابه فى أغلب الأحوال. فلم يكن قد حدث بعد الإنفلات الذى هز الكون فى مصر، وقلب الهرم الأكبر ـ لتصبح قاعدته اعلاه – و يضيع الستر العظيم الذى كان ثروة لغالبية الناس فى مصر، ولا يطمع اغلبهم فى اكثر منه .. هذا ما تيقنت منه يوم ذهبت الى مكتب احدى المصالح الحكومية لقضاء مصلحة ما. كان المكتب متواضعا ورثا..الكراسى متهالكه، وزجاج بعض النوافذ قد حلت مكان اجزاء منه قطع من كرتون نتائج الحائط القديمه، ورائحة الرطوبة والعطن تنبعث من بعض حوائط دورة المياه القريبه، بينما لايختلف حال بعض الموظفين كثيرا عن حال مكتبهم المتواضع مثلهم أو المتواضعون هم مثله. وحين ذهبت لأقدم الأوراق المطلوبة فى أحد شبابيك المكتب، أجفلت رغما عنى للحظة – حرصت ألا تطول – حين فوجئت بأن من يجلس وراء هذا الشباك ليتسلم الأوراق هو صاحبنا البك المحترم. شعرت بأنه قد أجفل هوأيضا حين فاجأه وقوفى أمامه، فهو يعرفنى حق المعرفه، إلا أنه سرعان ما تجاوز المفاجأة وقبل منى الأوراق مع ترحيب بسيط كان يمكن أن يكون أكثر من ذلك لو أنه التقى بى فى موقف آخر. قبل منى سريعا ما قدمته إليه ربما لكيلا تتعطل أعمال الآخرين، وربما لكى لا تطول رؤيتى له على تلك، رغم أنى فى الحقيقة قد أكبرت وجوده فى هذا المكان، و حرصه على العمل رغم مستواه ومستوى أسرته الإجتماعى، الذى جعل غيره يركن إلى التعطل.
هكذا كان أولاد الناس فى الزمن الجميل..