يوم بعد يوم، يزداد الوعى العام للشعوب بولوج الصين فى الساحة الدولية بشكل كبير؛ لم يعد الامر مقتصرا على التجارة ورواج السلع الصينية التى اصبحت جزءا اساسيا من حياة الناس، ولكن بدأ الكثير من شعوب العالم الثالث بادراك ان للصين دورا مهما وايجابيا فى تحفيز التنمية والحفاظ على السلام العالمى.
كل ذلك كان بمثابة الحافز لدول العالم الثالث للنظر الى الصين على انها دولة من دول العالم الثالث استطاعت ان تواجه بجدارة الصعوبات المحلية والعالمية وبداية مسيرة تنمية مستقلة خاصة بها، وان دول الجنوب العالمى تستطيع ان تعقد علاقات وشراكات فعالة مع الصين بناء على الاحترام المتبادل والمنفعة المشتركة بدون التخلى عن استقلاليتها وثقافتها الوطنية. ذلك بالطبع مثل عاملا مهما لتنمية العلاقات الصينية العربية والصينية المصرية على وجه الخصوص.
على الصعيد الاخر بدأ الكثير من شعوب الدول النامية وقياداتها الشك فى النظام العالمى الرأسمالى النيوليبرالى الذى تقوده الامبريالية. ومع تزايد ازمات الرأسمالية العالمية وانهيار مستوى المعيشة فى كثير من دول الجنوب العالمى وزيادة الاضطرابات الاجتماعية وانتشار الارهاب وتهديد الأسس الوطنية للأمم، تأكد لدى الشعوب فساد “الروشتة” النيوليبرالية وان النظام العالمى الرأسمالى يستحيل ان يستمر على ذلك المنوال وان النيوليبرالية ليست “نهاية التاريخ” لكنها المُعبِر عن الازمة العميقة للرأسمالية وانها النقطة التى سيتجاوزها التاريخ لتعبر البشرية نحو افق منفتح على احتمالات عدة، منها بزوغ عالم الاقطاب المتعددة.
فى هذا السياق التاريخى بزغت الصين كلاعب دولى مؤثر ولكن ليس مثل اى دولة مؤثرة على خريطة العلاقات الدولية؛ لانها دولة تنتمى للعالم الثالث اولا، وثانيا دولة يحكمها حزب شيوعى وهو اكبر حزب سياسي على مستوى العالم، ثالثا دولة تتجه نحو الاشتراكية وتمثل المبادىء الاشتراكية جزءا هاما من تاريخها السياسي والاجتماعى ونظامها الاقتصادي ومستقبلها ايضا. كل هذا جعل من الصين عضوا مميزا فى شبكة العلاقات الدولية اثار حفيظة الغرب الامبريالي.
من التنمية المنسجمة الى التنمية السلمية
منذ نشأة جمهورية الصين الشعبية فى 1949 وهى متمسكة بمبادئ التعايش السلمى بل هى التى صاغتها على يد ماو تسى تونج وشو انلاى وهى: الاحترام المتبادل للسيادة الوطنية، وعدم الاعتداء، وعدم التدخل في الشؤون الداخلية للآخر، والمساواة، والمنفعة المتبادلة، والتعايش السلمى. ولم تخالف الصين تلك المبادىء على مدار تاريخها الحديث وهيأ ذلك بيئة مناسبة لبداية مسيرة تنمية “منسجمة” مع ظروف الصين الموضوعية وتطبيق الرؤية العلمية للتنمية، لهذا اصبحت الصين جديرة بصياغة مبادىء التعايش السلمى على مستوى العلاقات الخارجية ومبادىء التنمية المنسجمة فى الداخل.
وفى العصر الجديد والذى بدأ بعد ان اصبح الرفيق شى جين بينج السكرتير العام للحزب الشيوعى الصينى فى 2012، حدثت تطورات نوعية كثيرة على المستوى المحلى وعلى الصعيد العالمى نجد ان الصين قد صنعت ايضا نقلة نوعية تتمثل فى الانتقال من تطبيق مبادىء التعايش السلمى مع البلدان الاخرى الى صياغة مفهوم “مجتمع المستقبل المشترك للبشرية” ذلك المفهوم الذى اطلقه الرفيق شى جين بينج وتم ضمه فى الدستور الصينى عام 2018.
ان ذلك المفهوم هو اممى بامتياز حيث ينص على ان الارض هى ملكنا جميعا وليس ملكا لحفنة من الدول الغنية المتقدمة المهيمنة وبالتالى يجب الا يرتبط مصير كوكبنا ومصير عموم البشر بمصلحة حفنة من البرجوازيين الاحتكاريين حول العالم. وان مصير امة ما مرتبط بمصير باقى الامم وبالتالى فمصالح الامم لا تتعارض ولكنها على العكس تتوافق وتنسجم بشرط ان تتعامل الامم مع بعضها البعض بناء على المساواة. وان التقدم والتنمية ليس حكرا لأحد بل انها من حق كل الشعوب، وان التنمية يجب ان تهدف الى مزيد من رفع مستوى معيشة الشعوب وتقليل الفروق الطبقية المستشرية وزيادة استقلالية الدول وتقوية سيادتها الوطنية وذلك لن يتم الا بحلول السلام على العالم وسيادة سياسة الحوار فى حل النزاعات وهنا يتضح لنا مفهوم اخر وهو “التنمية السلمية” والذى يعتبر احد الادوات الهامة الممهدة لتحقيق “مجتمع المستقبل المشترك للبشرية”.
الحلم الصينى والحلم المصرى
ان “مجتمع المستقبل المشترك” بالفعل بدأ ان يُطبَق على ارض الواقع وتبين ذلك فى لحظات تاريخية عدة كان لمصر والعالم العربى نصيب من المشاركة الفعالة فيها.
ان العلاقات الصينية المصرية قد ازدهرت وعاشت اقوى لحظاتها بعد 2013؛ اى بعد بداية العصر الجديد فى الصين وبعد ثورة 30 يونيو فى مصر وبداية بناء الدولة الجديدة. يرجع ذلك الى ان الصين ومصر قد عاشا لحظة مشابهة الى حد كبير؛ لحظة امل فى المستقبل ورغبة صادقة فى الانتقال لمرحلة ارقى من التطور؛ هذا ما تضمنه المفهوم الذى وضعه الرئيس شى جين بينج وهو “الحلم الصينى” الذى يتضمن السعى وراء استراتيجية شاملة لتجديد شباب الامة وتحسين حياة الناس وبناء مجتمع افضل وتقوية الجيش. وهذا لا يختلف كثيرا عن الاهداف التى وضعها الرئيس عبد الفتاح السيسي لبناء الدولة الجديدة وتوفير احتياجات الانسان المصرى وحقوقه الاساسية والسعى نحو رجوع مصر لمكانتها الاقليمية والدولية التى تستحقها.
وبالاضافة الى تناغم الاهداف، يتناغم التطبيق ايضا الى حد كبير؛ فالسياسات المتحدية للفقر فى الصين لها مقابلها المصرى المتمثل فى مشروع تطوير القرية المصرية “حياة كريمة”، كما ان مصر مثل الصين تهتم بانشاء بنية تحتية من الطرق ووسائل الاتصال لانها من الشروط الاساسية لتحقيق التنمية. وبالنسبة للسياسة الخارجية فكل من مصر والصين يتبعان سياسة الحوار لحل المشكلات ويرتكنان الى الشرعية الدولية دائما. وبالنسبة للتحديات فكلا البلدين واجها موجة من الارهاب تعاملتا معها بحزم وقوة. كل ذلك واكثر يؤكد على ان الحقبة التى نعيش فيها هى الحقبة المثالية للشراكة الصينية المصرية، يؤكد ذلك وثيقة رؤية مصر 2030 التى جاءت متوافقة مع اهداف مبادرة حزام واحد طريق واحد، وزيارات الرئيس عبد الفتاح السيسى المتكررة الى الصين حيث وصل عددها الى سبع زيارات وهذا الرقم فاق عدد الزيارات لاى دولة اخرى.
وسنناقش الان بعض التطبيقات لمفهوم “مجتمع المستقبل المشترك” متمثلا فى العلاقات بين الصين ومصر والعالم العربى عموما.
موقف الصين من التحديات المصرية والعربية
بالنسبة لأزمة سد النهضة الاثيوبى فان الصين قد نادت بنفس ما نادت به مصر بان يكون هناك حوار بين اثيوبيا ودول المصب (مصر والسودان) حول كيفية حل الازمة وان ينتهى الحوار باتفاق ملزم بين الطرفين يضمن حق دول المصب فى ماء النيل وان يكون هناك اشراف دولى على ذلك. ونتطلع الى دور اكبر للصين فى حل الازمة كونها دولة تتمتع بعلاقات طيبة مع كل من مصر واثيوبيا.
بالنسبة للقضية الفلسطينية؛ يجب ان نعلم ان تلك القضية هى شىء اساسى وجوهرى لكل الشعوب العربية؛ فلا يمكن بأى حال من الاحوال التفريط فى حقوق الشعب الفلسطينى التاريخية واهمها حقه فى الارض عبر ازالة المستوطنات غير الشرعية وعودة اللاجئين واقامة دولة مستقلة عاصمتها القدس الشرقية والرجوع الى حدود ما قبل 1967. ان الصين تتخذ موقفا مؤيدا للسلام العادل فى المنطقة حيث تقر وثيقة “سياسة الصين تجاه العرب”(2016) بأن الصين تؤيد قيام دولة فلسطينية مستقلة ذات سيادة كاملة وعاصمتها القدس الشرقية وبحدود عام 1967، وايضا التاريخ الصينى يؤيد ذلك الموقف حيث ظلت الصين منذ 1949 مؤيدة لحقوق الشعب الفلسطينى.
الصين تتضامن مع العالم الثالث فى أزمة كورونا
“نصحتُ ونحنُ مُختلفون دارا.. ولكن كُلُنا في الهم شرقُ”
قد تعجب المصريون من وجود بيت شعر هذا لأحمد شوقى مطبوعا على الشحنة الثانية من المستلزمات الطبية الوقائية التى ارسلتها الصين الى مصر، ان ذلك يعنى الكثير؛ فامير الشعراء قد كتب تلك القصيدة ليعبر عن تضامنه مع شعب دمشق عندما كان يقصفه الاستعمار الفرنسى عام 1926، ان الصين ارادت ايضا التضامن مع الشعب المصرى وكل شعوب العالم الثالث فى مواجهتهم مع فيروس كورونا وايضا مواجهتهم مع الغرب الامبريالي الذى تعنت فى إرسال مساعدات طبية وفيما بعد تعنت فى ارسال اللقاحات المضادة للفيروس.
ظهر ذلك جيدا فى التبرع باللقاحات الصينية (سينوفاك وسينوفارم) الى دول العالم الثالث، فى الوقت الذى تعنتت الشركات الغربية ان تبيع لقاحاتها مبكرا لتجنب تفاقم الازمة.
لم تكتف الصين بذلك فقط بل قدمت ما تعتبره الرأسمالية الغربية بمثابة فعل مُحرم الا وهو توطين تكنولوجيا تصنيع اللقاحات فى بلدان العالم الثالث؛ فى مصر والجزائر تم توطين لقاح سينوفاك، فى المغرب والإمارات العربية تم توطين سينوفارم، وقدمت الصين المواد الخام اللازمة لتصنيع اللقاحات ايضا. ان الغرب رفض نقل التكنولوجيا المُصنعة للقاحات متذرعا “بحقوق الملكية الفكرية”، تلك الحقوق المزعومة التى كانت من الممكن ان تودى بحياة ملايين من البشر لولا تدخل الصين وتوطينها لتكنولوجيا تصنيع اللقاحات.
تعاون “الجنوب- جنوب”: التضامن الاقتصادى ومبادرة الحزام والطريق
يتميز التعاون الصينى مع دول العالم الثالث وخصوصا فى الجنوب العالمى انه تعاون يقدم بديلا عن العولمة النيوليبرالية، هنا تكمن قوة العلاقات الخارجية الصينية وهذا يفسر غضب الدوائر الرأسمالية الاحتكارية من ذلك التعاون (الجنوبى- جنوبى) لان ذلك التعاون يتحدى الاحتكار الامبريالي بشكل مباشر. وتركزت الاحتكارات الامبريالية فى مجالات: الاستحواذ على الثروات الطبيعية فى العالم الثالث، والنظام المالى/المصرفى وتقديم القروض والاستثمار الاجنبى، مجال الاتصالات والمعلومات والتكنولوجيا، المجال العسكرى واخيرا المجال الايديولجى.
فى هذا السياق يجب ان نفهم مغزى التعاون الاقتصادى الصينى مع دول العالم الثالث فى العصر الجديد، لهذا سنناقش ذلك التعاون وسنتحدث عن دوره فى تنمية العلاقات الصينية-العربية وسنركز بشكل خاص على مبادرة “حزام واحد، طريق واحد” حيث انها المبادرة المتكاملة بأمتياز لانها لا تتعلق فقط بالقروض او تنمية البنية التحتية بل تمتد لتشمل اشكال تعاون فى مجال الصحة والاسكان والثقافة والبيئة.
1.ان الامبريالية قد خلقت نظاما محكما للاستحواذ على الثروات الطبيعية فى العالم الثالث واجبار تلك الدول على التفريط فى سيادتها الوطنية حتى يتثنى لها بيع ثرواتها. وتعتبر الصين منفذا كبيرا تستطيع الدول النامية بيع مواردها من خلاله بدون التفريط فى سيادتها. بالنسبة للشرق الاوسط وشمال افريقيا فان تقريبا نصف البترول المستورد فى الصين يأتى من تلك المنطقة لان هناك توجها متزايدا لدول تلك المنطقة ان تستخدم ارباحها فى التنمية الصناعية وتقليل اعتمادها على تصدير مصادر الطاقة، ويتزايد تصدير مصر لمصادر طاقتها الى الصين، بالاضافة الى زيادة الاستثمارات فى مجال الحفر والتنقيب فى مصر.
2.بالنسبة للنظام المصرفى العالمى والاستثمار الاجنبى فحدث ولا حرج؛ حيث انه هذا هو المجال الاهم لهيمنة الامبريالية الغربية ورأس المال الاحتكارى، فان الاقتراض من البنك الدولى وتطبيق نظام تكيف هيكلى يحمل الطبقات الشعبية اعباء القروض وادخال الاستثمارات الاجنبية غير المفيدة للبلد اصبح صك قبول دول العالم الثالث فى النظام العالمى الرأسمالى، بهذا يكون تقديم بديل لتلك المنظومة عملا ثوريا وامميا بامتياز وهذا ما تحاول فعله الصين من خلال ادوات كالبنك الاسيوى التنموى للاستثمار فى البنية التحتية او بنك التنمية الصينى. فى العالم العربى قدمت الصين من 2000 حتى 2014 نحو 52.11 مليار دولار، وفى 2018 قدمت الصين حزمة من القروض والمساعدات تحت بند “الاعمار الاقتصادي” و”الاعمار الصناعى”. كما ان الشركات الصينية قد شاركت فى بناء مسجد الجزائر الكبير ومنطقة CBD للعاصمة الادارية الجديدة فى مصر وغير من المشاريع الهام في الدول العربية . وتدعى الدوائر الايديولوجية الغربية ان الصين توقع البلدان الاخرى فى فخ الديون. يكفى القول ان البلدان التى تتعامل مع الصين لا يوجد شىء يجبرها على هذا التعامل؛ بل ان الصين توفر للدول الاخرى انواع مختلفة من الشراكات لتختار ما يناسب احتياجاتها والشراكة الاقوى هى الشراكة الاستراتيجية الشاملة التى وصلت اليها مصر فى 2014، بأختصار ان القروض الصينية هى قروض آمنة ويجب على الحكومات العربية التوسع فى استخدامها واستبدال قروض البنك الدولى بها فى اسرع وقت.
3.ان احتكار الدول الغربية للتكنولوجيا ومجال المعلومات والاتصالات هو ركيزة لاعادة انتاج التخلف فى العالم الثالث، لذلك تعتبر عملية مشاركة التكنولوجيا سبيلا للخروج من دائرة التبعية؛ لذلك كان هذا هدفا هاما من اهداف مبادرة الحزام والطريق. بالنسبة للشرق الاوسط والعالم العربى فان هناك تأكيدا دائما على سبل التعاون التقنى، تم التأكيد على ذلك فى عام 2018 فى المنتدى العربى الصينى عن طريق مقاربة “العجلتين والجناحين” ومقاربة “1+2+3” وانعكست تلك المقاربات فى مشاريع ضخمة كمحطة الطاقة المتجددة فى العطارات بالأردن مشروع مدينة دبى الذكية ومفاعل الفوسفات فى الجزائر، وافتتاح شركة جوشى الصينية لمشروع الألياف الزجاجية وبناء مصنع الاسمنت فى العريش الذى يقدر انه سينتج 7% من احتياجات مصر من الاسمنت، ومشاركة الاكاديمية الصينية لتكنولوجيا الفضاء فى تنفيذ مشروع القمر الصناعى المصرى ايجى سات 2. وفى 2018 بدأت الشركات الصينية تشارك فى تأسيس حديقة بينبان للطاقة الشمسية فى اسوان وهى من اكبر محطات شمسية فى العالم.
4.كما ان هناك بطشا امبرياليا عسكريا يوجد ايضا بطشا ايديولوجيا؛ لذلك يجب على دول الجنوب العالمى ان تتكاتف مع بعضها البعض لمواجهة ذلك البطش عبر التعاون الثقافى وقد لمسنا ذلك فى مصر عبر انتشار العديد من المراكز الثقافية الصينية ومعاهد كونفوشيوس ونتطلع الى تبادل وشراكة ثقافية اوسع من خلال انشاء المدارس والجامعات المشتركة والمنظمات المدنية الاجتماعية.
ان التغيرات العالمية تحتم علينا ان نجدد نظرتنا نحو العالم وان نتطلع الى افاق جديدة، باختصار يجب ان نتعلم ان نحلم ونجدد الامل مرة اخرى؛ فالعالم اليوم يختلف كثيرا عن التسعينيات او حتى بداية الالفية، ان القوى الامبريالية المهيمنة تتراجع وعالم القطبية المتعددة فى طريقه للظهور، وزهرة التاريخ تتفتح مرة اخرى على احتمالات عديدة وهذا يجلعنا كشعوب (كشعوب العالم الثالث) ان نعمل ونجتهد وننظم انفسنا لانتهاز الفرصة للمضى نحو طريق التنمية السلمية.
يوسف شوقى
عضو مكتب الشباب بالحزب الشيوعى المصرى