وجد القضاء منذ سالف العصر ليكون ملاذ الأفراد وموئلهم، اليه يركن المظلومون وفي ظلاله يحتمي المغبونون حين تسلب حقوقهم ويُفترى عليهم، ولقد أوكلت مختلف نظم الحكم على اختلاف انواعها الى مؤسسة القضاء مهمة الفصل في النزاعات والبت فيها واسندت اليها واجب انصاف المواطنين ورد المظالم اليهم وجعلت للقضاء الكلمة العليا والقول الفصل، فلا رادّ لحكمه ولا معقّب على قراراته، ولم يكن العراق استثناء، فلقد جعل دستور 2005 للسلطة القضائية ما ليس لسواها من السلطات، وضمن الدستور لهذه المؤسسة من الضمانات ما تنأى به عن معترك السياسة وضغط الساسة وجعل لقرارات القضاء البات عموما وقرارات المحكمة الاتحادية العليا خصوصا قوة تسمو بها على ما عداها من مؤسسات الدولة، بل الزم كافة السلطات في الدولة باحكام هذه المحكمة المؤتمنة على حقوق وحريات الافراد وما ترك من سبيل لنقض قراراتها او الطعن بها حيث انها باتة ملزنة للكافة.
ولعل مردّ ذلك ما افترضه الدستور فيها من حياد مطلق عن توجهات الخصوم ونأي تام بالنفس عن اي مقصد عدا انفاذ حكم الدستور وارساء اسسه في زمن اراد له واضعو الدستور ان يكون زمن الحقوق والحريات وفيه تسمو مبادىء الديمقراطية والعدالة والانصاف بعد عقود طويلة من الظلم والقهر. لكن لم يطل العهد بالعراق الجديد حتى قيل الكثير عن مزاجية تنتاب القضاء الاتحادي وميل نحو هذا الطرف او ذاك لا سيما الطرف المتغلب في العديد من القرارات التي اصدرها، ولا يطول الوقت بالباحث المنصف حتى يقرّ ان العديد من القرارات وضعت كما يشتهي الكبار وكما يريد المؤثرون الفاعلون، لكنه تحليل على استحياء وتقويم حذر على اساس ان من يعلو صوته بالتشكي مما في بعض القرارات من ظلم بين سرعان ما يلاحق بتهمة ازدراء القضاء والنيل من سمعته، فما على المظلوم والحالة هذه الا ان يكظم غيظه ويصبر ويحتسب حتى وان كان يشغل ارفع منصب تنفيذي في الدولة، ولعل تغريدة السيد (حيدر العبادي) الشهيرة يوما حين كتب: اين تشتكي حبة القمح اذا كان القاضي دجاجة مما يغنينا عن مزيد من التفصيل.
ولا يخفى ان مجلس النواب قد سحب الثقة عنا يوما، وهو قرار سياسي بلا ريب، ودليل كونه سياسيا ان الجهة التي اصدرته سياسية بامتياز ولا يكون لما تصدره من قرارات اي حصانة، كما ان دليل كونه سياسيا ان قضاء النزاهة قد برأ ساحتنا من جميع ما اتهمنا به مجلس النواب من تهم، كما قررت وزارة الخارجية ووزارة المالية اللتان تم استيزارنا فيهما ووزارة العدل كجهة مستقلة محايدة انها لا تطلب بحقنا اي شكوى لعدم ثبوت تقصيرنا في القيام باي واجب من واجباتنا، ولولا ان يطول المقام بالقارئ لكنا قد اوردنا تلك القرارات التي برأت ساحتنا بما تحمله من ارقام وتواريخ، لكنها جميعا معروفة لتلك الجهات ومعروفة كذلك للمحكمة الاتحادية العليا التي توسمنا فيها ان تكون جهة منصفة ستركن الى ما استقر عليه قضاء النزاهة من حكم وعلى عدم طلب الشكوى بحقنا من أي وزارة تم اســــــتيزارنا فيها او حتى من الجهات الأخرى المحايدة التي دخلت على خط التحقيق المستقل .
لكن اليوم العبوس الذي اصدرت فيه المحكمة قرارها العجيب لتحكم بعدم دستورية ترشيحنا لتولي منصب رئيس جمهورية العراق قد شهد اغرب استناد واعجب استدلال ، فلقد تعكزت المحكمة الاتحادية العليا على قرار مجلس النواب بسحب الثقة عنا كسبب لحرماننا من المشاركة في سباق الترشح لمنصب رئيس الجمهورية ، وثارت حين ذلك أمامنا عشرات الأسئلة التي لا يعلم تأويلها الا الراسخون في الخفايا والرابضون خلف الكواليس ، أليس القضاء الاتحادي عالماً ان قرار سحب الثقة على فرض صوبه لا يرتب اثراً وفقاً للدستور غير اعتبار الوزير مستقيلاً؟ اليس القضاء الاتحادي ملزماً بان يصدر احكامه وفقاً لنصوص الدستور لا وفقاً لقرارات سلطة اخرى لا تتصف قراراتها بالبتات ولا تمثل باي حال من الاحوال قرارات نهائية؟ الا تعرف المحكمة حقاً ان كل القضايا التي اتهمنا بها بعض المسيسيين في مجلس قد اثبت القضاء واثبتت التحقيقات اننا بريئون منها كبراءة بعض القضاة من الانصاف والحياد؟ وهل يصلح ان يكون قرار البرلمان الذي اثبت القضاء واثبتت التحقيقات عدم صوابه فيما استند اليه سنداً للحرمان من حقوق المواطنين وحرياتهم في المشاركة العادلة في شؤون السياسة والحكم؟ وهل صدقا اوردت المحكمة في حكمها ان القرار البرلماني المذكور يسيء الى سمعتنا وحسن سيرتنا رغم انه ليس نصا في الدستور وليس حكما باتا يصلح ان يكون سندا لمثل هذا الظلم؟
هذه الاسئلة ومثيلاتها اخريات عصفت في النفس وجعلتنا والعديد من الخبراء والباحثين القانونيين في الشؤون الدستورية يتساءلون بحزن عن مصير النص الدستوري الذي يدعي ان المتهم – حين اتهامه – يكون بريئا حتى تثبت ادانته في محاكمة قانونية عادلة، فما بال المتهم الذي ثبتت براءته؟ أليس اولى بالتمتع بحقوقه كاملة غير منقوصة؟ ولا نريد ان نخفي على المتلقين اننا كنا في مقام التفكير بمقاضاة مجلس النواب على قراره بسحب الثقة عنا على اساس انه قد ثبت انحيازه وبناؤه على اسس استغلال السلطة والتعسف في استخدامها لاغراض التسقيط السياسي، فاذا بنا نتلقى هذا الحكم التاريخي من المحكمة الاتحادية العليا حين اعلنت ان المواطن مدان وان ثبتت براءته، وان من شأن القرارات المسيسة التي اثبت القضاء والتحقيق عدم صوابها انها تكفي لحرمان المواطن من حقوقه السياسية، بل تصلح سندا لنسخ الدستور باحكامه المنمقة التي ثبت عندنا انها للاستهلاك المحلي والرياء على الصعيد الدولي، لكنها في الحقيقة حقوق وحريات جوفاء متهاوية تفسر حدودها المحاكم كيف شاءت، ولعله الوداع لاي امل في ان يركن المظلوم المغبون الى قاضيه الطبيعي لينتصف له، انه زمن انحشار القضاء في بوتقة السياسة اذا لم نقل انه زمن مسك القضاء بأزمة السياسة لتوجييها حيث يريد الكبار.