بقلم/ محمد درويش
عام ٢٠١٣ وبعد وفاته بأشهر قليلة فوجئت بعودة نسخة الماجستير التى أهداها إلىّ وحكمت له المحكمة باستردادها.
لم أشرف بمعرفة رضا عبد السلام رئيس شبكة إذاعة القرآن الكريم الذى حظى مؤخرا بالمنصب الكبير، ولكننى أعرف قريناً له منذ ثلاثين عاماً، أول ما تبادر إلى ذهنى أن الأستاذ رضا الذى ولد بلا ذراعين تصالح مع قدره وتعلم أن يكتب بأسنانه، أما الثانى واسمه بدر مصطفى حسين فقد كان يكتب بأسنانه وبأصابع قدميه أيضا حتى استطاع الحصول على الماجستير، كان متحديا لقدره حتى باع صداقتنا وهو غير مصدق أن القدر أراد أن يمد له يد المصالحة، عندما ألقى بأشخاص عديدين منهم كاتب هذه السطور فى طريقه العاثر فقرر أن يخسرهم جميعا بما فيهم أنا وإليكم الحكاية ولكم الحكم فى النهاية.
البداية: عام ١٩٩١ من القرن الماضى، محرر أنا فى قسم التحقيقات الصحفية، رن هاتف المكتب وصوت من زميل فى الاستعلامات يخبرنى بوجود مُقعد على كرسى متحرك يطلب صحفيا ليستمع إلى شكواه وإلا فإن مآله الانتحار، هرعت إلى مكتب الاستعلامات، استمعنا إليه ومشكلته التى لخصها فى تعنت إدارة كلية الآداب جامعة عين شمس على السماح له بتسجيل رسالة الماجستير.
نسيت أن أقول إن الشخص الذى التقيناه كامل الجسد ولكنَّ يديه تتطابق أصابعهما على كل كف ولا يستطيع بسطها، كما أن قدميه عبارة عن أصابع تفرقها المسافات التى ساعدته أن يضع بها قلما حديدياً ليتمكن من الكتابة.
كان مصمما على أن نلبى طلبه فى الحال وننشر فى الجريدة فى اليوم التالى وإلا فإنه سينتحر!
ـ أنا عاوز مكتب الأستاذ مصطفى أمين، لازم يساعدنى.
صعدت إلى مكتب الراحل الكبير وأبلغت مدير مكتبه الأستاذ كرم رحمه الله بالموضوع فكتب خطاباً «اكلاشيه» موجها إلى رئيس الجامعة ودلف به إلى مكتب مصطفى بك وحصل على توقيعه.. منحناه الخطاب وأجرينا معه اللقاء الصحفى، ويوم النشر جاءنا يشكرنا ويشكر مصطفى بك على منحه قبلة الحياة وقبول الجامعة تسجيله للماجستير.
وصارت صداقة
تصوّرت أن العلاقة التى بدأت بلقاءين، لقاء الشكوى ولقاء الشكر قد انتهت، كما تنتهى العلاقة بالمصدر من خلال العمل بأقسام التحقيقات الصحفية بمجرد النشر، ولكن لأسباب عديدة تحولت العلاقة إلى صداقة متينة بينى وبينه، كان دائما ما يحضر إلى الجريدة ليشكو تعنت المسئولين فى المدرسة الحكومية التى تم تعيينه بها فى مدينة السلام حيث حصل على وحدة دور أرضى طبعا بجوار المدرسة.
الماجستير
عام ١٩٩٥ على ما أذكر حضرت مناقشة رسالة الماجستير التى كتبها بأسنانه وكان بين أعضاء لجنة المناقشة أستاذنا الدكتور محمد عبد المطلب وأذكر أنه قال فى معرض مناقشته إن هذه الرسالة التى كان عنوانها «شعر أوس بن حجر» استفاد هو منها شخصيا والحقيقة كنت أول مرة أسمع محكما يثنى على رسالة واحد من تلاميذه ولكنه الجبار بدر مصطفى حسين الذى كتب فى مقدمتها: هذا علمٌ علّم العلماء الأقدمين منهم والمحدثين!انهالت عليّ المكالمات من زملاء يعملون فى صحف محلية أو فى مكاتب لصحف عربية.. منهم زميل أجرى معه حوارا لصحيفة خليجية وكانت نتيجته أن لجأ بدر مصطفى حسين إلى رفع قضية تعويض فى المحكمة لا أذكر سببها ولكنه خسرها على كل حال ولم انتبه إلى أنه غاوى قضايا، إلا عندما أخبرنى بالتحاقه منتسبا لكلية الحقوق لدراسة القانون، اندهشت قائلا له: الطبيعى تركز فى تحضير الدكتوراه، قال: هذا طريق سأسلكه ولكن دراسة القانون استهدف بها أن أكون محاميا عن نفسى فى القضايا التى أرفعها وما أكثرها، انتبهت إلى أنه لم يدع أحدا تعامل معه إلا وكان القضاء سبيله فى هذه العلاقة بدءاً بأستاذه رمضان عبد التواب رئيس قسم اللغة العربية الذى كان منتسبا له واتهامه بالسطو على بحث له مرورا بالهيئة العامة للكتاب مدعيا تواطؤها فى تسجيل البحث باسم أستاذه وليس باسمه هو!
قضية أخرى رفعها على جاره الموظف المرموق والسبب اعتقاده أن الجار تسبب فى أن تغرق شقته بمياه الصرف الصحى واحتد النقاش بينهما فوكزه بقبضة يده، وعندما روى لى الواقعة اندهشت ألهذا الحد يفتقد الجار الإنسانية ويوجه للرجل المقعد صاحب الماجستير لكمة فى وجهه وهو يعلم أنه لا حول له ولا قوة ولم يذكر طبعا ما دار فى النقاش من كلمات قد يكون استفز بها الجار فخرج عن حدود الإنسان.
كنت أتساءل وهو كما حكى لى من عائلة كبيرة وكل أشقائه فى مناصب مرموقة، لماذا يتركونه وحيدا فى ظل ظروفه هذه ولماذا لا يزورونه اللهم إلا ابن شقيق له وهو شخصية رائعة كان يصطبر كثيرا على عمه رغم ما يوجه له من انتقادات.
كل ذلك لم ينقص من تعاطفى معه، وكنت اعتبره محقا دائما فى رد فعله مع دائرة المحيطين به قرابة أو عملا أو دراسة، كنت أعرف أنه موظف حكومى وأن الكرسى المتحرك الذى لا غنى له عنه أكل عليه الزمان وشرب فعرضت عليه كرسيا من أسبوع الشفاء فوافق بعد إلحاح، ثم عرضت عليه مبلغاً من ليلة القدر لمساعدته فى تحضير الماجستير ووافق أيضا على مضض مشترطا عدم النشر واستجبنا له فكل ما يهمنا أن نساعد شخصا مثله دون منٍّ أو أذى.
صباح الخير يا مصر
فرحت جدا باتصال معه من برنامج صباح الخير يا مصر صاحب الشنة والرنة والذى ارتبط عند الناس بمتابعة الرئيس الراحل له، وأرادوا التسجيل معه وقلت له إنها فرصة ليعرض مشاكله ومطالبه فى العمل التى لا تحل وتغيير مكان السكن ليكون قريبا من العمل وغيرها من مشاكل على وجه التحديد، جاء فريق العمل وصعدت به على كرسيه إلى مكتبى فى الطابق السابع وكانت المرة الأولى حيث كنت دائما ما أنزل أنا إليه فى بهو الدار وأحيانا كنت أدفع كرسيه وأسير به فى الشارع وكان يطلب منى التوقف والعودة إلى المبنى لأن الناس لن تتفاعل معه طالما وجدوا من يدفع الكرسى.المهم فوجئت عند إذاعة الحلقة وهم يعرضون تسجيلا للكتابة بأسنانه واجتزأوا كل شكواه وكل مطالبه وظهر كأنه نابغة وفرت له الحكومة كل شيء رغم أنها لم تفعل، ناهيك جريدة قومية عندما أفردت مساحة فى صفحة الخارجى لطالب أمريكى عملاق يتخذ من محطة المترو مأوى له وهو طالب فى كلية الطب!
ومن هذا الذى أغفله برنامج صباح الخير يا مصر جاءت لى فكرة نشر موضوع آخر عنه نجدد فيه مطالبه وشكواه خاصة ونحن على أبواب نشر حكايات أسبوع الشفاء، أى أن النشر مضمون بالمساحة التى لن تتعرض للاختصار وفرصة ذهبية عسى الوصول إلى ما يرضيه.. وهنا كانت النهاية بينى وبينه والتى كرّ هو خيطها عندما توجه للقضاء بدعوى ضدى.
كتبت الموضوع ، وقلت فى مقدمته هذا الرجل لم يطلب منا شيئا، نحن من عرضنا عليه ورفض تماما، كنا على يقين من حاجته وعلى يقين أيضاً من كبريائه وجبروته..
ربما لم يحدث فى تاريخ تناول موضوعات ليلة القدر وأسبوع الشفاء أن اشرنا إلى أن هذا المواطن لم يطلب شيئا، بعد مقدمة استعرضت مطالبه وشكاواه وطالبت المسئولين بحلها.
اعتبر بدر الموضوع قذفا فى حقه وهو العلامة الذى علم العلماء المحدثين والقدماء، ولجأ إلى رفع دعوى تعويض ضد المؤسسة أو ضدى أنا بالأساس، والغريب أنه طالب باسترداد النسخة التى أهدانى إياها من رسالة الماجستير مدعياً أنه جاء ليقدمها للراحل مصطفى أمين وسلمها لى، وأننى لم أفعل وأخذتها لنفسى. لجوؤه إلى عدم قول الصدق أصابنى بحيرة فقد أهدانى إياها وكتب بأسنانه هذا الإهداء الذى لا لبس فيه وينفى عنى ادعاءه تماماً.. كتب يقول:
إهداء
هذا كتاب عربى علم العلماء.. المحدثين والقدماء.. والأموات والأحياء.. والعرب والأعاجم.. اللغويين والعروضيين والبلاغيين والنحاة، ويرجع الفضل – كل الفضل – فى تأليفه إلى الصحفى الشجاع الأستاذ محمد درويش بجريدة الأخبار الغراء بتاريخ ١٧/١٠/١٩٩١، حيث أمكننى بعده وبسببه مقابلة أ.د.عبد السلام عبد الغفار رئيس الجامعة يومئذ الذى استطاع أن يضرب الحصار المفروض حول عنقى لطردى من الجامعة وحرمانى من طلب العلم، فتم تسجيل هذه الرسالة فى ١٢/١٢/١٩٩١، فحق لكاتب هذا التحقيق أن أهدى إليه هذا الكتاب الذى هو ثمرة شجاعته وأمانته فى أداء عمله، فى كل طبعاته، فى حياة المؤلف ومماته وألا يهدى لأحد سواه.
بدر مصطفى حسين
٢٧/٤/١٩٩٥
قدمت صورة من الإهداء إلى زميلى المحامى بالشئون القانونية للمؤسسة، وتأكيداً لحسن نيتى قدّمت له أيضاً إيصالات وقع عليها باستلامه نقوداً أكثر من مرة وأيضاً كرسيان متحركان، ولم أسع للمثول أمام المحكمة على أساس أن الأوراق تدحض كل ادعاءاته، ولكن صدر الحكم بتعويض بضعة آلاف من الجنيهات وفى نفس الوقت أن أعيد له النسخة المهداة.لم أغضب من بدر ولم تحمل نفسى منه بغضا، أيقنت بعد مراجعتى لسنوات العلاقة معه أنه ناقم على الجميع ـ الأقربون والأبعدون ـ حتى من حاول أن يقترب منه ويصبح له صديقاً رفضه أيضاً، رفض التصالح مع نفسه.
هو الرضيع الذى أصيب بصدمة عصبية إثر سقوط ماء مغلى على بدنه أدى به إلى الحال التى صار عليها حتى تجاوز عمره الثالثة والستين حين لقى ربه عام ٢٠١٣ عندما رد لى صديقى إبن شقيقه نسخة الماجستير.
هذا الرضيع الذى نما عقله وجسده على وضعه ساعده أبوه فى أن يتعلم القراءة والكتابة من نتيجة الحائط، والتحق بالتعليم وصمم قلماً حديدياً ليستطيع أن يضعه بين أسنانه ويتحكم فيما يكتبه وأيضاً الرسومات الهندسية التى ظل يذاكرها حتى الصف الأول الثانوى عندما اتجه إلى القسم الأدبى.
ولا أجد فى النهاية غير الدعاء بأن يسامحنى إذا كان له حق عندى، أما عنى فأنا أسامحه إذا كان ما رويته بصدق يعد حقا لى عنده.