“اصحى يا نايم.. وحد الدايم” جملة ترددت على مسامع الكثيرين بصوت جهوري طيلة شهر رمضان المبارك، حيث يجوب المسحراتي الشوارع حاملًا في يده طبلة أو مزمار، يداعبه الأطفال ويتنافسون فيما بينهم للنجاح في المهمة المرجوة، وهي سماع أسمائهم من قبل المسحراتي يوميًا فور مروره بمنازلهم، ليتبادلون الابتسامات، وتتعالى صوت الضحكات التي يتخللها صوت الاستعدادات لتجهيز مائدة السحور، حيث يسارع الصغير قبل الكبير من أفراد الأسرة في تقديم المساعدة وتحضير المائدة، في مشهد يبعث البهجة والطمأنينة في النفوس، إيذانًا بقدوم شهر رمضان المبارك.
وتعد هذه المهنة، واحدة من أهم المهن الرمضانية، وأكثرها شعبية، وعلى الرغم من تراجع أو اندثار المهنة إلى حد ما، نظرًا لمتغيرات العصر الحديث، تظل ذكراها عالقة في القلوب قبل العقول باعتبارها واحدة من أهم المظاهر الاحتفالية بقدوم الشهر الكريم.
وفي هذا السياق، يأخذكم “صدى البلد جامعات” في جولة تاريخية قصيرة للتعرف على بدايات ظهور مهنة المسحراتي وتطورها على مر العصور..
المسحراتي والإسلام
ظهرت مهنة المسحراتي، منذ أن أمر الله سبحانه وتعالى بالصوم في شهر رمضان الكريم، حيث كان الصحابي بلال بن رباح، أول مؤذن في الإسلام، وابن أم مكتوم، يقومان بمهمة إيقاظ المسلمين استعدادًا للسحور، ومن ثم الإمساك عن الطعام والشراب وسائر المفطرات حتى آذان المغرب، فكان بلال يطلق صوته بالآذان، فيبدأ المسلمون في تناول السحور، ومع اقتراب الفجر، يتولي ابن أم مكتوم النداء مرة أخري، ليعلن الناس بالإمساك.
بدايات ظهور مهنة المسحراتي في مصر
تم استخدام الطبلة لأول مرة كأداة أساسية من أدوات المسحراتي في مصر، في عصر الدولة الإسلامية، واستمر هذا التقليد حتى يومنا هذا، حيث كان والي مصر “عنبسة بن إسحاق” والذي كان من أصل أفغاني، هو أول مسحراتي ظهر في مصر عام 228 هجريًا، حيث كان يسير على قدميه ليوقظ الناس للسحور، ومع مرور الوقت، وتحديدًا في عهد الدولة الفاطمية، أمر الحاكم بأمر الله، الناس، أن يناموا مبكرًا بعد صلاة التراويح، وكان الجنود يمرون على المنازل ويدقون أبوابها ليوقظوا المسلمين للسحور، ثم أخذ الأمر في التطور ليصبح مهنة معروفة، عُرفت باسم “المسحراتي” .
ثم جاء العصر المملوكي، وتحديدًا في عهد الظاهر بيبرس، والذي عمل علي إحياء المهنة، التي كادت أن تندثر في هذه الفترة، نظرًا لارتباطها وصلتها الوثيقة بالتراث الإسلامي، حيث عكف بيبرس على تعيين صغار علماء الدين للدق على أبواب البيوت، لإيقاظ أهلها للسحور، وبعد أكثر من نصف قرن، وتحديدًا في عهد الناصر محمد بن قلاوون، ظهرت طائفة أو نقابة المسحراتية، والتي أسسها أبو بكر محمد بن عبد الغني، لتتعاظم بذلك أهمية ومكانة المهنة من جديد.
سيد مكاوي وشخصية مسحراتي الإذاعة
يرجع البعض أسباب تراجع المهنة واندثارها، إلى متغيرات العصر الحديث، وانتشار وسائل الإعلام المختلفة، ووسائل التواصل الاجتماعي بأشكالها المتنوعة، حيث أتاحت متغيرات العصر مجموعة من البدائل المختلفة لإيقاظ الناس للسحور و التي أصبحت تغني عن هذه المهنة.
وإلى جانب البعد الديني المرتبط بمهنة المسحراتي، قدمت العديد من الأعمال الفنية هذه المهنة بالتزامن مع قدوم شهر رمضان، والتي جاء على رأسها “مسحراتي الإذاعة”، والتي انطلقت عام 1964، من الإذاعة المصرية، على يد الشاعر فؤاد حداد والموسيقار الراحل سيد مكاوي، حيث جسد مكاوي شخصية المسحراتي والتي كانت بمثابة السهل الممتنع بالنسبة له، فبمهارة فنية منقطعة النظير وموهبة صادقة استطاع مكاوي أن يلامس الوجدان من خلال شخصية المسحراتي التي استمر في تقديمها حتى وفاته، ليرحل ويترك أثره خالدًا في نفوس الكثيرين. الإذاعة